اللاجئ رقم واحد
يا للهول.. مشيا؟ نعم أستاذ، رد أحدهم، وماذا فعلتهم في هذا الطقس البارد؟ أين كنتم تنامون وماذا تأكلون؟ -أخي، عشنا كما تعيش الذئاب، ننام في الغابات وتطاردنا الشرطة والجيش والعصابات في كل مكان، والحمد لله وصلنا. أخذني حديثي مع الشباب اللاجئين إلى ارتداد صوري غير مفهوم، وكلماته باتت كرجع الصدى الذي تتقاذفه جدران أربعة، أيقنت وأنا متجه إلى الحدود الألمانية النمساوية أن قصص هؤلاء لا تستوعبها ألف كاميرا ولا ينقلها ألف مايكروفون، فقد كسروا قواعد المتتاليات المتطبعة بالأحكام في الغرب. بت مؤمنا أن من استطاع الفرار من الموت والجحيم في بلده والتضحية بكل شيء والنجاة من أسوار أوروبا المقفلة قادر على أن يحقق معجزة في بلد الوصول التي لن تكون بأي وجه أقسى مما تكبده المبتعثون من أحشاء الجمر.
بدت عليهم الريبة والخشية منا! فمعاطفنا وجاكيت المصور الزرقاء والكاميرا قد يعتبرونها مصيدة للأمن النمساوي أو لربما ظنا منهم بأننا ممن يعملون مع الحكومة النمساوية.. تسارعت خطواتي وعيونهم ترصدنا جميعا كسهام وضاءة، ترقبنا وتمعن النظر في أجهزتنا.. أدركت أن الموقف يحتاج إلى مبادرة لكسر الجليد.. -السلام عليكم.. أنا مراسل الجزيرة، أهلا بكم.. ردوا بابتسامة حذرة: وعليكم السلام؟ -حمدا لله على سلامتكم، الله يعطيكم الصحة! شعرت أن خطبا ما حال بيني وبينهم، بدا أنهم لم يفهموا كلامي، صافحت بعضهم؟ وبدت تفاصيل وجوههم مختلفة عن السوريين الذين عاشرتهم منذ عشرين عاما؟ ردوا علي.. لا نتحدث العربية نحن من أفغانستان؟ تحدثت معهم بالإنجليزية، وبدا الأمر أكثر صعوبة فلا أحد يتكلمها؟ سقط في يدي ماذا سأفعل الآن؟ كيف سأتواصل مع هؤلاء؟ نادى أحدهم من داخل الجموع.. تعال، احنا سوريين وعراقيين.. تعال إلى هنا.. دفعت بنفسي بين الصفوف المترقبة مع المصور الذي كان يركز على تصوير وجوه القادمين الجدد.. إلى أن وصلت إليهم.. شباب ونساء وأطفال ورضع وكهول، خليط من كل الأعمار، الإرهاق والمعاناة باديان على قسمات وجوههم، أحذيتهم المهترئة باتت صامدة على تخوم النمسا، يقول بعضهم إنه قطع أكثر من ألفي كيلومتر أغلبها مشيا على الأقدام..
-عيسى، إن العواجل التي أرسلتها ستتحمل مسؤوليتها! -طيب.. لا تقلق ستصلكم الصور قريبا جدا. التفت إلى المصور الذي ما انفك يجول بعدسته على طول المناطق المحاذية بحثا عن اللاجئين، -ألكسي، هل رأيت أحدهم؟ هل ترى شيئا؟ -لا.. ليس بعد. بدت الدقائق طويلة تلفها سجائر كنت قد نفثتها تباعا، ماذا عساي أن أفعل إذا لم تصل قوافل اللاجئين؟ وفي ذروة التيه والغموض ينادي المصور: -عيسى.. انظر القافلة.. -أي قافلة يا صاح؟ -قافلة اللاجئين!! -يا ألكسي لا تمزح؟ فلقد نفد صبري أرجوك. -لا يا عيسى.. تعال وانظر.. -ألقيت بعين في منظار الكاميرا حتى كاد بؤبؤ عيني يلتصق ببلور عدسة الكاميرا.. -واو.. ساغ غوود (جميل جدا) يا ألكس.. أرسلت عواجل إلى غرفة الأخبار وأرسلت أولى الصور، وأزيحت عني أثقال كبيرة.. الآن يا عزيزي ألكسي.. سيبدأ العمل الحقيقي، سنسجل للتاريخ لقاءنا باللاجئ رقم واحد. اقتربت الجموع المتدفقة على طوال منحدر تملأه الأشجار، نزلنا على عجل لمقابلتهم، اقتربنا شيئا فشيئا، وعلى بعد أمتار، توقفوا فجأة..
285
284
Made with FlippingBook Online newsletter