الجزيرة نافذتيعلى العالم
ومن الفلوجة في محافظة الرمادي العراقية غطيت ظاهرة التشوهات الخلقية بين المواليد الجدد بسبب آثار الأسلحة المشعة . فبعد 2004 التي استعملت في معركتي الفلوجة الأولى والثانية سنة أكثر من عقد ونصف ما زالت نسبة التشوهات الخلقية مرتفعة بشكل كبير في المدينة، وما زال الأهالي يدفعون كلفة تلك الحرب المدمرة من أجنة مجهضة، أو أطفال كتب عليهم الشقاء لأنهم ولدوا في الفلوجة بعد أن مر بها الأمريكان. أما تجربة التغطية في ليبيا ففتحت عيني على مآسي النزوح داخل البلد. فالحملة الفاشلة للواء المتقاعد خليفة حفتر للسيطرة على ، دفعت سكان ضواحي العاصمة إلى الهروب 2019 طرابلس سنة منها أو الاحتماء بالأحياء الداخلية التي كانت تؤمنها حكومة الوفاق. مع هذا النزوح، شردت أسر ودمرت بيوت، فضلا عما تكشف بعد ذلك من جرائم التعذيب الممنهج والمقابر الجماعية التي استمر اكتشاف مزيد منها بعد هزيمة حفتر بأشهر. وعلى قدر ما في هذه التجارب من جوانب مظلمة في سلوك الإنسان تجاه الإنسان، إلا أنها كانت مفيدة، بل وضرورية في مرحلة مهمة من حياتي. هذا فضل آخر أدين به للجزيرة التي بدأت علاقتي معها باعتبارها نافذتي على العالم، ثم صارت نافذتي إلى العالم بعد أن بدأت بالتعاون مع قناة الجزيرة الإنجليزية ما فتح لي آفاقا أرحب لم أكن أظن أنها ستفتح لي يوما.
الحرب والعنف والدمار، مرة بأيدي الغرباء، ومرة بأيدي أبناء البلد أنفسهم. من خلال تجربتي في الحرب، رأيت متغيرات كثيرة، من السلاح المستخدم إلى طبيعة الصراع إلى الأطراف المتصارعة. الصراع عادة يكون مرهونا بمصالح تحمى أو نفوذ يتوسع أو قتال للبقاء، أو دفعا لظلم واقع. أما الثابت الوحيد دائما فهو معاناة الإنسان خصوصا من لم تكن له في الحرب ناقة ولا جمل. وعلى قدر اهتمام الجزيرة في تغطياتها الحائزة على الجوائز العالمية بالأطراف وتغيراتها، كجزء أصيل لا يكتمل الواجب المهني بدون عرضه، إلا أنها لا تغفل لحظة عن الثابت الأصيل في المعادلة، فانحازت الجزيرة إلى الإنسان دائما؛ وفي هذا أسست مدرسة مستقلة تستحق عليها الإشادة. على هذا النهج سرنا في تغطياتنا، فأكثر قصة أذكر تفاصيلها بدقة من تغطيتي في أفغانستان كانت لأسرة من ثمانية أطفال أشقاء فقدوا أختا لهم وفقدوا أرجلهم، بسبب انفجار لغم سوفييتي أرضي، أثناء عودتهم من المدرسة، في مدينة جلال آباد عاصمة ولاية ننغرهار، كانت القصة على ما تحمل من ألم، دليلا آخر يؤشر إلى هوية من يدفع حقيقة الكلفة الباهظة لحرب يفترض أنها انتهت منذ ثلاثة عقود.
به لم يدم أكثر من أسبوع قبل أن تسحب السلطات ترخيص العمل المؤقت الذي منحته لي، دون إبداء أسباب حتى كتابة هذه السطور. كان وضعا اضطررت معه إلى العمل مؤقتا في غرفة الأخبار في الدوحة، في انتظار أن تراجع السلطات قرارها، لكنه انتظار طال أكثر من أربع سنوات. كان العمل في غرفة الأخبار تجربة غنية ومثمرة ولا تشبه مثيلاتها على المستوى المهني. فهذه غرفة أخبار الجزيرة في نهاية المطاف. إنسانيا، كانت فرصة للتعرف على زملاء أحمل لهم من الاحترام والتقدير ما تعجز الكلمات عن وصفه، ومناسبة لوضع صور الوجوه على أصوات قوية وشجية وبليغة طالما سمعت منها وعنها الكثير وتعلمت منها أكثر. استمرت تجربة العمل في الدوحة ما بين قسم التخطيط والمراسلين وقسم التحرير إلى أن اقترحت على مدير التخطيط آنذاك محمد صافي، أن يرسلني إلى أفغانستان لدعم المكتب هناك. وقد سبق لي أن غطيت التدخل العسكري الفرنسي في مالي قبلها بأربع سنوات، وكان لي فيها تجارب جمعت بين الخوف والمجازفة. لكن أفغانستان كانت للناظر إليها من الخارج أشد خطرا وأقل أمنا، وكانت في الوقت نفسه أكثر إغراء لمتعطش مثلي للعمل الميداني. في المهمة الأولى، قضيت في كابل ثلاثة أشهر. منذ ذلك الوقت سافرت إلى أفغانستان أربع مرات ومكثت فيها بشكل متفرق نحو سنتين. غطيت الندوب التي تركتها الحرب على البلد وسكانه، وفترات الهدوء فيه تشبه جزرا صغيرا متناثرة وسط محيط واسع من
تسارعت الأحداث وأنهيت الدراسة الثانوية واجتزت اختبارا لدخول معهد الصحافة في الرباط. ربما كانت إشارة من القدر بأن الحلم قابل للتحقق، وأنه قد بات أقرب. كنت محظوظا بأن أدرس على يد أساتذة كبار، لكن المدرسة الحقيقية كانت شاشة الجزيرة، فهي لمن أراد دخول المهنة أكبر مدرسة للصحافة. كانت مشاهدة الجزيرة وحدها تدريبا مهنيا متكاملا. تعلمت كيفية صياغة الأخبار بمجرد الاستماع إلى النشرات، وإلى تركيب التقارير التي يكتبها كبار صحفيي الجزيرة الذين أفخر الآن بمزاملتهم. كنت مهتما بأسئلة المذيعين أكثر من اهتمامي بأجوبة الضيوف والخبراء، على أهمية ما يطرحون من آراء وأفكار، لكن غايتي كانت تعلم حرفة الصحافة من أساتذتها في الجزيرة، وقد كانوا كذلك. أذكر كم كانت سعادتي غامرة عندما أخبرني الزميل محمد البقالي أنه تم قبولي لإجراء تدريب في مكتب الجزيرة في الرباط. أذكر أنني تهيبت المكان والعاملين فيه. كانت النشرة المغاربية تنتج يوميا من المكتب الذي كان خلية عمل لا تتوقف، وربما من أكبر مكاتب الجزيرة وقتها بعد غرفة الأخبار في الدوحة. نشرة الجزيرة المغاربية كانت موضوع بحثي الأكاديمي لنيل دبلوم المعهد العالي للإعلام والاتصال. مرة آخري، كأن القدر كان يدفعني نحو ما أريد، ويخبرني أني اقتربت. تخرجت وعملت في صحف وإذاعات وقنوات محلية ودولية، لكن وجهتي دائما كانت الجزيرة، وإلى وجهتي وصلت أخيراً. بدأت العمل . لكن عملي 2016 في مكتب الجزيرة في الرباط مراسلا نهاية سنة
373
372
Made with FlippingBook Online newsletter