وفي كل مرة كنا نعود فيها إلى أوديســا كنا نُفاجَأ بحجم التغير. ففي كل زيارة كنــا نالحظ أن الحياة تعود تدريجيا إلــى المدينة ويزداد صخبها، وقد أرجعت ذلك إلى سببين: األول هو أن الناس أدركوا أن الجيش الروسي ليس كما كانوا ، وأنه صار من الصعب عليه اجتياز ميكواليف؛ خصوصا " جيشا ال يُقهر " يتخيلونه على وقع الضربات الموجعة التي تلقاها هناك والتي أجبرته على االنســحابات والتراجع من الميدان. أما الســبب الثاني، فهو أن اإلنســان يتمسك بالحياة رغم كل الظروف، فهو دائما ما ينسى أو يتناسى ويتكيف مع الظروف المحيطة رغم هول المآسي التي يشاهدها يوميًّا، ويسعى نحو الحياة مدفوعا بغريزة البقاء. وقد شاهدت شيئا مشابها لهذا السلوك أثناء تغطيتي للصراع في سوريا وليبيا والعراق وأذربيجان، بل في ميكواليف نفسها التي لم يتوقف قصفها، وظلت خطرة إلى أن غادرتهــا؛ فقــد اعتادت هي أيضا الحياة تدريجيا، وآية ذلك أنك كنت حينما تأتي إلى عين المكان الذي شهد في اليوم السابق قصفا وقتال تجد بعض الباعة يعرضون بضائعهم والمارة يبتاعون منهم احتياجاتهم. على كثرة األحداث التي غطيناها في أوكرانيا فإنني ال أنسى ما حييت ذلك اليوم الذي تأثرت فيه كثيرا بهذه األحداث الثالثة. كنا في أحد األيام نغطي خبرا عن قصف مستودع كبير للمواد الغذائية في أطراف ميكواليف، وبمجرد أن انتهينا أخبرني مرافقنا أن هنالك صاروخا سقط فــي قريــة قريبة وأنه دمر منزال وقتل كل من كانوا فيه، فترددنا في الذهاب إلى هناك ألننا ال نعرف المكان جيدا، وال ندري مدى خطورته؛ خصوصا أنني كنت على موعد للظهور على الهواء في نشرة المنتصف بعد نصف ساعة، وهي نشرة مهمة ضمن خريطة نشرات الجزيرة، لكننا في النهاية عزمنا أمرنا وقررنا الذهاب. كانت القرية أبعد مما تصورنا، والطريق إليها ترابية غير معبدة. كانت تقع على مقربة من مطار المدينة؛ أحد الجبهات الساخنة في تلك الفترة. من حسن حظنا أننا وصلناها قبل دقائق من موعد النشــرة فبدأنا بســرعة التجهيز للمقابلة، وبمجــرد ظهــوري على الهــواء، وخلفي المنزل المدمر، اســتدرت لكي أترك المجــال للكاميرا فإذا بي أُفاجَأ بأن رجــال اإلنقاذ بدؤوا إخراج جثث متفحمة بشــكل مخيف بحيث يســتحيل التعرف على أصاحبها. لقد كان المشهد مؤلما
48
Made with FlippingBook Online newsletter