Together Apart-(A)

ثمـة فـارق وحيـد... ففـي زمـن «الطاعون» لـم تكن هنـاك حيـاة «افتراضيـة» موازية، نحـن نسـميها «افتراضيـة» تلـك التـي نحياها عبـر الإنترنـت والهواتف الذكيـة بتطبيقاتها الخارقـة!، مـع أنهـا باتـت فـي زمـن الكورونـا تحتـل المسـاحة الأكبر فـي الزمـن الممنوح لنـا وفـي الحيـز المكانـي الضيـق المتـاح لأجسـادنا والـذي لا يتجـاوز جـدران المنـزل، لقـد باتـت هـي الحيـاة الواقعيـة التـي نقيـم فيهـا وننتمـي إلـى مفرداتهـا المتشـعبة، ننثـر عبـر أثيرهـا ثرثراتنـا السـخيفة، نكاتنـا السـمجة، عبـارات تشـجيعية مسـتهلكة، دردشـاتنا التـي تجـوب المحيطـات وتتصـادى عبرهـا علـى مـدار السـاعة، صـور وجباتنـا وطبخاتنـا وأطب ـاق حلوياتن ـا الت ـي نتباهـى بإعدادهـا داخـل سـجوننا المنزلي ـة، شـجاراتنا وسـيول شـتائمنا وسـخطنا علـى قـرارات الحكومـة، تقاريـر علميـة -حقيقيـة كانـت أو ملفقـة- حـول كيفي ـة الوقاي ـة مـن الوب ـاء وآخـر التقاري ـر ع ـن اللقاحـات الموعـودة، نقاشـات سياسـية حـادة بيـن يسـاريين تأخذهـم النشـوة بالأخبـار الـواردة مـن أميـركا ولا يخفـون شـماتتهم وتوقعاتهـم بانهيـار قريـب للمنظومـة الرأسـمالية، وبيـن آخريـن ليبرالييـن يتهمــون النظــام الشــيوعي الحاكــم فــي الصيــن بافتعــال تلــك الأزمــة وتصديــر الفاي ـروس للغـرب -لا سـيما الولاي ـات المتحـدة الأمريكي ـة- انتقامًـا وابت ـزازًا، وثمـة مـد قـوي جدي ـد لـ«تج ـار الدي ـن» الذي ـن يزدهـر نشـاطهم وقـت الأزمـات الكب ـرى -والتاري ـخ يشـهد- أدعيـة وادعـاءات؛ أدعيـة مسـتحدثة لرفـع الوبـاء وادعـاءات بـأن الـ«كورونـا» تلـك مـا هـي سـوى عقـاب إلهـي حتمـي جـراء مـا نقترفـه مـن «موبقـات» و«فواحـش» وآثـام، فتـاوى و«فتـاوى مضـادة»... والكثيـر الكثيـر مـن «بـركات» هـذا الفضـاء الأزرق الفائضـة بصـورة خاصـة فـي مثـل تلـك الأيـام التـي تذكرنـي -بكثيـر مـن القلـق والرعـب- بمـا قال ـه الراحـل الكبي ـر محمـود دروي ـش فـي معـرضشـهادته عـن تجرب ـة النكب ـة ... «فـي البدايـة كنـا نعـد الأيـام علـى أصابعنـا للعـودة، ثـم أصبحنـا 1948 واللجـوء عـام نعـد الأيـام علـى الحصـى». شـخصيّا أن ـا اب ـن «درام ـا الوج ـود» تل ـك بمـا فيهـا م ـن معق ـول وغي ـر معق ـول ولا يمكنن ـي الن ـأي عنهـا، لكن ـي أنتمـي لفصيل ـة مـن الكت ـاب لا يمكنهـا أن تقـدم عمـا كتابيّـا إبداعيّـا وهـي فـي «عيـن العاصفـة»، لعلهـا تجـد مسـاحةً تأمليـة واستكشـافية بعـد مغادرتهـا فتكت ـب مـا تشـاء ومـا يعب ـر فني ّـا عمـا حصـل وتغـوص عميقًـا فـي تجليات ـه وآث ـاره وانعكاسـاته الاجتماعي ـة والإنسـانية... ولعـل كل مـا يمـر الآن يصب ـح ذكـرى يسـعفني فايـروسكورونـا -مشـكورًا- بنجـاةٍ مـن المـوت لاسـتعادتها وتوثيـق وقائعهـا.

120

Made with FlippingBook Online newsletter