Together Apart-(A)

لقـد تكهْـربَ الجـوّ لدينـا، وكأنّنـا نواجـهُ غضبًـا كونيّـا لا قـوةَ لدينـا فـي مواجهتـه! التنبيهــاتُ والإرشــاداتُ تَمــُ الصحــفَ والشاشــاتِ وأَدواتِ التواصــل. لا تخرجــوا مــن بيوتكـم، لا تتجمعـوا فـي مـكانٍ واحد، اغسـلوا الأيـادي... تعقّمـوا... تجنّبوا... حـاذروا...! أَنــا، فــي حقيقــة الأَمــر، مارســتُ حياتــي العاديّــة، دون أَنْ أَخــرُجَ مــن مكتبتــي. لقــد جل ـتُ العال ـمَ مـن شـماله إل ـى جنوب ـه، ومـن شـرقه إل ـى غرب ـه، مُتنقـاً مـن الكوي ـت، إلـى أمريـكا، إلـى اللمـكان واللزمـان، تأخذنـي الكتـبُ مـن جـوّ إلـى آخـر، ومـن حكايـة إلـى أُخـرى، وتُعرّفنـي علـى شـخصياتٍ لا تَعرفُنـي، ولـن تَعرفنـي. أنـا، فـي حقيقـة الأمـر، خرجـتُ مـن هـذا التقوقـعِ، والصمـتِ، والغضـبِ الذي سَـكنَ صـدورَ المليين، ومارسـت حقّـي ومُتعَتـي دون حاجـةٍ إلـى تنبيهـاتٍ أو إرشـاداتٍ أو فرمانـات!. وهـذه هـي نتيجـة القـراءة! يُناغين ـي كتاب ـي... «أَمـا اشـتقتَ إل ـي؟» أَربــتُ عل ـى ظهـره كمـا الهِـرّ الصغي ـر. ينظـر إلـيّ بعينيـنِ خضراوَيْـن، مُسـتعطِفًا، مُترجّيًـا أَّ أدخُـلَ فـي تلـك الصوامـع المُغلقـة، وأن أَكـونَ حُـرّا فـي التجـوال بي ـن الغي ـوم، وغاب ـاتِ الأمـازون، ون ـدفِ الثل ـج، وأَنهـار آسـيا، وشـوارع لن ـدن وباري ـس. حقّـا، أن ـا أعي ـشُ مَل ِـكًا! صحي ـح لي ـس ل ـدي ت ـاجُ المل ـوك، ولا أَملــكُ خزائنهــم، ولكننــي أعيــشُ حُــرّا، أَتجــولُ بــا جــوازِ ســفر، ولا تأشــيراتٍ، ولا حتــى مُلحقـاتٍ أَمني ّـة! أَفت ـحُ كتاب ـي العزي ـز، بعـد أَنْ طبعـتُ قُبل ـةً عل ـى خَـدّه الأيسـر! نعـم، أَن ـا رَجعـتُ ل ـك! هـاتِ مـا عن ـدك؟! تقفـز إل ـى قلب ـي الكلمـاتُ، وتحوطن ـي العب ـاراتُ، الأمكن ـةُ، الأزمن ـةُ، الابتســاماتُ، الدمــوعُ، الفراشــاتُ، الصهيــلُ، الخريــرُ، الرعــودُ، المشــانقُ، كــؤوس الســاهرين، الخفقــاتُ، قوافــلُ اليــأس عنــد الــوداع، عذابــاتُ ســجينٍ خلــف القضبــان، أُسـطورةٌ إغريقي ـة مات ـتْ فـي الطري ـق، صلعـاتُ الرّهب ـانِ مـن أهـل (التب ـت)، أَصـوات الغربــان فــي الأبنيــةِ القُوطيّــة، خلجــاتُ البحّــار وهــو يجمــع المحــارَ مــن عُمــق البحــر، حشـرجاتُ مريـضٍ بالسـرطان فـي قبـوٍ مُظلـم، دمّ مغتَصِـبٍ يفـورُ فـي عروقه، بعـد أَن غــرّر بفتــاةٍ قاصــر، جملــةٌ تنتحــرُ علــى الســطر، لأنّ كاتبَهــا ل ـم يَصُنْهــا كمــا يجــب. أتَلفـتُ حول ـي، لا أَحـد ينظـرُ إل ـيّ، ولا أَحـدَ أَنظـر إلي ـه، لقـد هجـمَ الب ـؤسُ عل ـى هـذا المنـزل، وبـدأتِ الأشـباحُ تتراقـصُ أمـام المرايـا. وبـدأت الغربـانُ تُطلـقُ نشـيدَ المـوت! «هـل حقّـا سـوف نمـوت؟!» يباغتُنـي السـؤال! لا بـأس، كُلّنَـا سـنموت يومًـا، المسـألة فـي التوقيـت فقـط وليـس فـي الفعـل.

169

Made with FlippingBook Online newsletter