Together Apart-(A)

جارتنـا الطيبـة وحيـدة وهـي التـي شـاركتنا أفراحنـا وهمومنـا، مـن كانـت أول الزائريـن للمريـضوالمهنيـن للمتـزوج والمعزيـن لأهـل الميـت والمصلحيـن بيـن المتخاصميـن، مـن كان يتخيـل أن تـوارى الثـرى دون سـيل مـن الدمـوع وحشـد مـن المصليـن، ليـس بالي ـد حيل ـة، لقـد جن ـى مـراد عل ـى أمـه بأنانيت ـه واسـتهتاره واختي ـاره أسـوء الأوقـات والظـروف للعـودة إلـى حضنهـا ولا نـدري علـى مـن جنـى أيضًـا، وضـع أمـه فـي قبرهـا وعـاد إلـى البيـت يجـر الألـم والحـزن، أغلق أبـواب المنـزل واستسـلم لفيضمـن الدموع، لـم يخطـر ببالـه يومًـا أن يـوم اقترابـه مـن أمـه يحـاذي يـوم الفـراق وأن دمعه سـيحرق جفنيـه بعـد أن تقـر برؤيتهـا، جـل مـا أراده ألا يكـون وحيـدًا، كان بحاجـة إلـى حضنهـا الدافـئ ولمسـاتها الحنونـة التـي كان تعالجـه حينمـا يعجـز الطبيـب . كان ينظــر إلــى الفانــوس المتدلــي مــن الســقف ويحــاول أن يتخيــل ظــام لياليهــا وســاعات الانتظــار الطويلــة علــى أمــل مكالمــة ســنوية منــه تــدوم لبضــع دقائــق، تخنقـه العبـرات وتؤلمـه الذكريـات والروائـح التـي تعبـق بالمـكان ويغـزوه الألـم عندمـا يتذكـر الجحـود الـذي قابـل بـه عطاءهـا، ثـاث عشـرة سـنة قضاهـا فـي الغربـة تبدلـت فيهــا كل المفاهيــم وتغيــرت كل الــرؤى، جمــع فيهــا الأمــوال وانتقــم مــن أيــام الفق ـر الت ـي عاشـها ف ـي طفولت ـه، وع ـاد ليعوضهـا ع ـن الأل ـم والح ـزن ال ـذي ذاقت ـه سـنين، تحيـط بـه الذكريـات السـوداوية وتمتـد نحـو روحـه وتنقـذه منهـا رائحـة الشـيح والإكلي ـل والزعت ـر الت ـي عطـرت المـكان. لقـد شُـفي مـن هـذا المـرض لكـن، مـا فائ ـدة شـفاء الجسـدِ وال ـروحُ عليل ـة، لقـد تســبب فــي مــوت مــن افترشــت الأرض لتغطيــه وتحملــت مــرارة الوحــدة وضنــك الحيـاة لتحميـه. كانـت الأيـام التـي تلـت وفـاة أم مـراد أسـوأ الأيـام وأقسـاها، لـم يقبـل العـزاء فـي بيتهـا ولكـن بيـوت الحـي كلهـا توشـحت بالسـواد، خفتـت أصـوات الصبيـة وضجي ـج السـيارات ول ـم يع ـد يسـمع سـوى نب ـاح كل ـب فقيدتن ـا وكأن ـه يرثيهـا. لف ـح الحـزن وجـوه الجمي ـع؛ عائلت ـي وسـكان الحـي، وامت ـزج بالخـوف والتوجـس، ل ـم يكـن أمامنـا أنـا وإخوتـي وبضعـة مـن سـكان المدينـة مـن حـل سـوى محاولـة الحـد مـن تفشـي المـرض عب ـر التوعي ـة بضـرورة ملزمـة المن ـزل والتباع ـد الاجتماع ـي والالت ـزام بالإرشـادات الصحيـة التـي لـم تقصـر وسـائل الإعـام والجهـات المختصـة فـي التنبيـه عليهـا عبـر مواقـع التواصـل الاجتماعـي. كان أخـي خالـد الأكثـر تأثـرًا بموت جارتنـا فصار متجهـم الوجـه، يتصـرف علـى غيـر عادتـه يتهـرب مـن لقائنـا ومجالسـتنا ولـم نعـد نـراه أول الجالسـين أمـام التلفـاز فـي السـهرة، يتحاشـى لمـس أشـيائنا ويرفـض الاقت ـراب

42

Made with FlippingBook Online newsletter