وتأكيدًا للتصالح مع الدولة الحديثة، تراجعت حركة «التوحيد والإصلاح» وحركة «النهضة» عن حلمين أساسيين حفل بهما خطابهما زمنًا طوي ً، هما: حلم استرجاع «الخلافة» وحلم بناء «الدولة الإسلامية»، حيث توجهت كلتا الحركتين لنقد هذين الكيانين، باعتبارهما لا يمتلكان الشرعية الدينية، بل هما مجرد حكم تاريخي لاضرورة لاستنساخه، ولا رغبة لهما في ذلك، ما دام الأمر يتطلب مسايرة روح العصر، الذي يفرضشكً جديدًا من الدول، هو نموذج الدولة الحديثة، كما رأوا أن فقه الواقع والضرورة يتطلب التكيف معها والانسجام مع طبيعتها، وكذا التوافق مع مبادئها الحداثية؛ مما يعد انفتاحًا على الواقع، وخروجًا من عباءة فقه السياسية الشرعية الذي أصّل لحكم الخلافة، والقطع مع فكر «الإخوان المسلمين» الذي نادى بضرورة إقامة «الدولة الإسلامية» بديً عن الدولة الحديثة. لكن الدولة المنشودة لدى الإسلاميين، والمرسومة في أدبياتهم لم تقطع كليّا مع قيم الدولة الإسلامية، ولم ترتمي كليّا في أحضان الحداثة بل بقيت بين بين، لا إلى هنا ولا إلى هناك، لأنها ظلت مقيدة بالتوافق مع مقاصد الشريعة، دون أن تقدم تفسيرًا أو مشروعًا مقنعًا يوضح إمكانات تحقيق هذه المعادلة، لهذا بقي فكرها موسومًا بالضبابية والاضطراب؛ الأمر الذي انعكس سلبًا على تجربتها في الحكم، والتي تميزت بالارتباك والعجز عن التغيير الحقيقي، لأن المشروع السياسي الأصلي موؤود والمشروع البديل مفقود. فرغم دفاع حركة «التوحيد والإصلاح» وحركة «النهضة في أدبياتهما عن دولة حديثة تسير وفق مقاصد الشريعة إلا أن الأمر بقي حبيس السطور ولم يخرج لأرض الواقع، ولم يتم إدراج مطلب التوافق في البرامج السياسية للأحزاب المنبثقة عنهما، والتي تجردت من الشروط الدينية الملزمة، وحافظت على الدعوة لتخليق الحياة السياسية والعامة، ورفع شعار محاربة الفساد، والتأكيد على ما نصّ عليه الدستور من إسلامية الدولة، شأنهم في ذلك شأن العديد من الأحزاب الوطنية. كما عّ هذان الحزبان الإسلاميان، المغربي والتونسي، في برامجهما السياسية، عن انفتاح كبير على أسس الحداثة، والتصالح مع قيمها الكونية؛ الأمر الذي أكده اعتماد المصطلحات الحداثية بشكل قوي، دون وضع شروط أو قيود دينية. ويؤكد هذا الاختلاف بين المشروع الذي طرحته أدبيات الحركتين الإسلاميتين، وبين البرامج السياسية للأحزاب المنبثقة عنهما، الوعي بخصوصية الدول القُطرية الحديثة والتحديات التي تطرحها، سواء داخليّا أو خارجيّا، والتي تحول دون الحرص على التوافق مع الشريعة، بالشكل الذي رسمته أدبيات الحركتين الإسلاميتين. وأهم ما ميّز تجربة الحكم لدى الحركتين سالفتي الذكر هو المفارقة الواضحة بين الفكر والممارسة، نظرًا لصعوبة تطبيق تمثلاتهما عن الدولة والمؤسسات بالشكل الذي نظّرتا له منذ
88
Made with FlippingBook Online newsletter