تدمير تماثيل بوذا في أفغانستان
بعد منتصف النهار بقليل، ظهرت الصور على شاشتنا، وخلال دقائق قليلة انتشرت في جميع أنحاء العالم. كان سبقا صحفيا مزدوجا، فقد التقطنا آخر الصور لتماثيل بوذا قبل التدمير، ثم جاءت صور التدمير لتكلل جهود الفريق بنجاح منقطع النظير. أما عن مشاعرنا ومواقفنا حيال تدمير تلك التماثيل فذاك موضوع آخر. أذكر جيدا ما كان يعيشه الصحفيون العرب خلال الفترة التي سبقت ولادة الجزيرة، والحسد الذي كنا نشعر به تجاه الصحفيين الغربيين الذين توفر لهم مؤسساتهم الصحفية كل وسائل النجاح والإنجاز المهني. كان هؤلاء ينظرون إلى الصحفي العربي نظرة تتراوح بين الإشفاق والاستخفاف، أما بعد ذلك السبق الصحفي، وما أعقبه من إنجازات مهنية ونوعية للجزيرة في أنحاء كثيرة من العالم، فقد اختلف المشهد تماما، ودخلت الصحافة العربية عهدا جديدا.
فكرت في الموضوع، مدير مكتب وكالة عالمية ينتقل من إسلام آباد إلى كابل، ويحصل على شريط معين، ويتعجل في بثه، لا بد أن يكون متعلقا بالتماثيل. قررت بيني وبين نفسي أنه حتى في حال وصول حجز للبث فسأتجاهله مهما كانت العواقب، ولم تكن الجزيرة تعلم في حينها أننا حصلنا على الصور. جمعت الزملاء في المكتب واستشرتهم ما إذا كانوا يؤيدون بث الشريط وتحمل العواقب، والتي قد تصل إلى حد إغلاق المكتب؟ حصل إجماع على التعجيل ببث الشريط وتدارك العواقب عن طريق وزارة الخارجية. قلت لهم: دعونا نجري محاولة أخيرة للتواصل مع وزير الخارجية، وذهبت إلى الوزارة تعتريني مخاوفمن أن يتمكن غيرنا من الاستحواذ على هذا السبق الصحفي. فوجئت بأن الوزير وصل كابل في الصباح الباكر، وتمكنت من مقابلته وشرحت له الوضع، فوافق على نشر الشريط، وقال إنه سيحاول تلافي أي مضاعفات قد نتعرض لها من بعض الجهات في حكومة طالبان. عدت إلى المكتب بسرعة، وقبل أن نبدأ في البث، جاء الحارس يقول إن الرجل نفسه على الباب ويصر على الحديث معي، فقلت له: أبلغه أن يعود بعد ساعة. عاد الحارس يقول إن الرجل استشاط غضباً وغادر وهو يتلفظ بعبارات فهم منها أنها قد تكون شتائم باللغة الإنجليزية لي وللجزيرة، ولم نر وجهه بعدها أبدا.
عند وصول الصور، تصادف وجود صحفي عربي في زيارة لمكتبنا، وكان يعمل في باكستان ويحاول الوصول إلى باميان، شأنه في ذلك شأن كثير من الصحفيين الذين توافدوا على أفغانستان بمجرد انتشار خبر قرار طالبان تدمير التماثيل. وعلمت منه أن وكالات الأنباء العالمية جندت كل طاقاتها ومتعاونيها، ووعدت بمكافآت ضخمة لمن يزودها بصور التماثيل، وقال لي إنه يضمن حصولي على مبلغ كبير جدا يغنيني عن العمل في الجزيرة، إذا وافقت على بيع الصور لإحدى تلك الوكالات المقيمة في إسلام اباد، فابتسمت له وصرفته بالحسنى. لم نتجرأ على نشر الصور خوفا من ردة فعل طالبان، واحتمال اعتقالنا. كان لا بد من إبلاغ وزارة الخارجية لتساعدنا في حال حصلت لنا مشكلة، على اعتبار أن الوزارة هي التي منحتنا الترخيص للعمل في أفغانستان مع وعد بمساعدتنا في حال وقعنا في مشاكل مع وزارات أخرى. ترددت مرارا على الوزارة، فأبلغوني أن الوزير مسافر. في الصباح التالي، أبلغني حارس المكتب أن أجنبيا على الباب يسأل عني. خرجت للقاء الرجل فقدم لي نفسه على أنه مدير مكتب وكالة أنباء عالمية في إسلام اباد، ولديه شريط يحتاج إلى بثه عبر الأقمار الاصطناعية. كان مكتبنا هو الوحيد الذي يملك نظاما للبث بالصوت والصورة، فأجبته بأنني غير مخول ببث صور لمؤسسات إعلامية أخرى، والأمر يحتاج إلى موافقة القناة برسالة عبر الفاكس. قال إنه طلب حجزا للبث من إدارة الجزيرة في الدوحة، وطلب مني الاتصال بالجزيرة فرفضت، وقلت له إنني لا أستعمل الهاتف الفضائي إلا في ما يخص أغراض المكتب، وعند وصول الحجز يمكن أن أستقبله.
أن معركة باميان نبهت بعض علماء الدين المقربين من قيادة طالبان إلى وجود هذه التماثيل، فأصدروا فتوى بتدميرها، بينما قال آخرون إنها كانت خطوة الهدف منها تنبيه العالم إلى المأساة التي يعيشها الأفغان في ظل الحصار الدولي المفروض على بلادهم. عدنا إلى توظيف علاقاتنا واتصالاتنا بمسؤولي الحركة للحصول على ترخيص يسمح لنا بالسفر إلى باميان لتوثيق عملية التدمير، فاكتشفنا ان أوامر مشددة صدرت من قيادة الحركة بحظر سفر الصحفيين إلى المنطقة، وأقامت قوات الحركة حواجز عسكرية على مداخل الولاية. كان لا بد من اللجوء إلى وسائل غير تقليدية، والواقع أننا نستخدمها أكثر من الوسائل التقليدية بسبب تشدد طالبان في موضوع التصوير، فبدأنا بإرسال بعض المتعاونين الذين لا يوحي مظهرهم بأي علاقة بمهنة الصحافة. بعد أيام قليلة، وردت إلينا أخبار من مصادر عديدة تفيد بأن عملية التدمير قد بدأت فعلا، وفي منتصف مارس نشرت قناة أمريكية صورة فوتوغرافية تظهر انفجارا ودخانا كثيفا يغطي التماثيل، وذكر لي بعض المتعاونين أن القناة المذكورة دفعت عشرة آلاف دولار ثمنا للصورة رغم أنها غير مؤكدة. في اليوم التالي، وصل إلى مكتبنا أحد المتعاونين، وهو أوزبكي، وأحضر لنا شريطا يوثق عملية التفجير الأولى، والتي استهدفت التمثال الصغير وأخفقت في تدميره، وفي الوقت نفسه وردنا اتصال من أحد مصورينا يفيد بأنه نجح في الوصول إلى موقع التماثيل، وأنه بدأ بتصوير عمليات التفجير.
67
66
Made with FlippingBook Online newsletter