«حي بن يقظان الجزيري» في غابة الصور
رهين هذه الإفادة الناقصة حتى يفزع إلى ما يمكن أن نسميه تفتيق معاني الصورة، وهو جهد في طلب شوارد معاني الصورة التي قد تبدو قليلة الصلة بخبرها لكنها متى قرئت في سياق (الحدث) اتضح معناها. وهذا باب التعويل فيه على الخبرة وعلى القدرة على بناء رواية أخرى للخبر تكون وفية (لصورته) غير أسيرة لمعناها (المباشر). بذلك لا تعود الصورة كيانا منبتا حبيس لحظته ومكانه، بل تحيا حياة جديدة في الكتابة المستوحاة منها وعبر إعادة التشكيل بين النص المرئي والنص المسموع تعود معه شوارد الصور إلى قطيع معناها. في تقرير مباراة الجزائر ومصر محاولة لذلك. الصور هي كتاب تاريخ البشرية اليوم، وصور الأخبار في غالبها لا يتم إنشاؤها ببراءة، بل هي تصنع صناعة بوصفها سردية بصرية تتوخى تشكيل الرأي العام عن طريق الأخبار. وقد تخضع الصورة للقراءات المتعسفة مثل قول وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد بُعيد سقوط بغداد، حين سأله الصحفيون عن أعمال النهب والسرقة للمؤسسات الحكومية والمتاحف، عما إذا كانت نذرا بفوضى قادمة تعم العراق. قال رامسفيلد: «الحرية بطبيعتها فوضوية والناس الأحرار لهم مطلق الحرية في ارتكاب الأخطاء وارتكاب الجرائم وإتيان شنيع الأفعال». ما صنعه رامسفيلد هنا هو قراءة متعسفة والتفاف على (صور النهب) ليجعل منها تعبيرا عن (الحرية) لا (الفوضى). أي هو سعي لإنشاء خطاب مواز للصور بوصفه (رواية للتاريخ). لكن قلماً شجاعا فضح تلك المزاعم. إنه الصحفي الأمريكي الشهير بوب وودورد في كتابه (حالة إنكار)، وهو كتاب أوقع في نفسي شكا كبيرا تجاه ما نقدمه للناس بوصفه (أخبارا) و(تصريحات تعبر عن دخيلة المصرّح). لم تكن أخبار الحرب وعقيدتها ودوافعها وسجالها في أروقة السلطة والقرار هي
ما عدلت عنها حتى استوت مذهبا له أتباع ومريدون. لكن ما الخبر يا رعاك الله؟ هل هو ما يقوله السياسي تنصب أمامه المايكرفونات؟ أم هو في اللقطة التي تمنحك إجالة بصرك في قاعة تضم قمة لقادة دول؟ أم هو في اللقطة الخاطفة لطرف من السوق تجهد أن تخبرك عنه وقد أطرته في زمانه ومكانه؟ أم إن الخبر ليس في الذي رأيت صورته بل هو في كثيره -وربما في جوهره وأصله- كامن في الذي لم تره؟ في أرشيف صور وكالات الأنباء، تجد صورة شهيرة للرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين وقد وقف وإلى جواره مساعدوه، يستقبل رئيسا يزور موسكو. يترنح يلتسين المتقدم صف الاستقبال ويوشك على السقوط. يسارع إليه مساعدوه يقيمونه في الصف وهو يميل يمنة ويسرة. هل كان يلتسين مريضا أم هي بقية من فودكا الليلة الماضية لما ينقشع كدرها بعد؟ لن تعرف ذلك. لكن هل رأيت روسيا المترنحة في ترنحه ذاك؟ هل رأيت بقايا الامبراطورية السوفيتية التي تبعثرت دولا مستقلة لكل منها علم ونشيد، ثم رأيت روسيا الوارثة عبء التاريخ وهي تجهد أن تكون صورة الامبراطورية فلا تواتيها القدرة؟ كتبت مرة تقريرا عن مباراة مشهورة في كرة القدم بين مصر وبين الجزائر في التصفيات المؤهلة لكأس العالم. كان كل شيء حاضرا في تلك المباراة إلا الرياضة. كنت ترى السياسة وإخفاقاتها الوطنية وهزالها الاستراتيجي في ميادين الاقتصاد والاجتماع، ثم سعي الدولتين لانتزاع أي مكسب من تحت أرجل اللاعبين لتودعه في حساب حسناتها السياسي لدى الشعب. لكن هل تريك الصورة (السياسة) في الملعب؟ لن تريك. لكن خبر تلك المباراة كان كله خارج ما تعرضه الكاميرا. كان للدقة خارج كادر الكاميرا. وهنا فخ التلفزيون الأكبر. أن الصورة لا تخبرك دائما بكل شيء. والحال كذلك فإن الصحفي التلفزيوني سيظل
قد غادر حِجر الدولة بعد ولعل أكثره ما فعل حتى يومنا هذا. جئت إلى الجزيرة مجيء حي بن يقظان، أجرب تجربته في المعرفة، ولعل الجزيرة نفسها كانت على نحو ما تجريبا في غير المجرب في الإعلام عربيا. كانت مغامرة وكذا كانت تجربتي. فالجزيرة التي التحقت بها منتصف عام سبعة وتسعين كانت أوثق صلة بمذاهب العمل الإعلامي الغربي -لا سيما البي بي سي- منها بالعربي. كانت تتوسم خطوه وتنتهج نهجه وتتمثل قيمه فيما يتعلق بالحيدة والموضوعية والنزاهة، والأهم من كل ذلك في إفساح المجال للرأي الآخر. غير أن الجزيرة على نحو ما احتقبت غير قليل من لغة الصحافة العربية التي انتهت إلى «كليشيهات» ترص رصا خلت من الروح والجدة. جاءت الجزيرة بجديد كثير -ما في ذلك شك- لكن أكثره صب في الآنية اللغوية القديمة ولم تكن جرأتها في اللغة كجرأتها في المحتوى. وقد وقعت في نفسي جفوة باكرة من طريقة كتابة الخبر التلفزيوني الواقفة عند الصورة لا تعدوها إلى ما وراءها تبحث في معانيها المستكنة. أمضيت زمانا أراقب كما فعل حي بن يقظان، أدرب نفسي على رؤية للخبر تكون فيها الصورة إيماء، وتكون تلميحا تفصح وتشي وتحيل. الصورة هي بعض الواقع وليست كله. هي اجتزاء منه دال عليه، وليس مستقصيا له مشتملا عليه. وربما يمكن، بقدر كبير من التواضع، القول إن أمرين اثنين ألحا علي إلحاحا شديدا ثم وقفت نفسي عليهما طيلة سنوات عملي، هما: تفتيق معاني الصورة، وتجديد اللغة الصحفية التلفزيونية. ذلك مطلب عسير لا ريب، وإن شئت قل ادعاء ما أدري كم أصبت منه، وكم من الناس أرضى وكم أغضب. المهن عند بعض الناس مثل المذاهب، يحرسونها بحماسة لا تقل عن حماسة المؤمنين. وقد كنت مهرطقا كبيرا وجد ما وجد من النكير. لكني لزمت طريقتي
فيما يقوله المسؤولون الأمريكيون وحلفاؤهم أمام الكاميرات، بل فيما لا يعبر عنه ولا يجد طريقه أبدا إلى الإعلام. ما كان يجد طريقه إلى الإعلام هو (التصريحات)، وهي في الغالب تصريحات تصف الظواهر ولا تجهد لتفسيرها. في كتاب (حالة إنكار) نفاذ إلى (العالم السفلي) للسياسة حيث تبدو الوجوه بلا أقنعة، والأهداف بلا ذرائع أخلاقية. إن المهمة الأصعب هي إعادة قراءة الوقائع المشهودة والصور بحيث تنشئ قصة خبرية يتم فيها تحرير الصور من حمولتها الإيديولوجية حتى تكون أوثق صلة بواقع الحال منها بالرواية المصطنعة. وهذا عمل عسير يتطلب من الصحفي متابعة دقيقة للأحداث، فلا يستغرقه جديدها عن قديمها، ولا صورها الماثلة بين يديه عن صور عصفت بها الحادثات الجديدة فانزوت في دهاليز الأرشيف.
71
70
Made with FlippingBook Online newsletter