العدد18

| 46

لكن الفجوة الشاســعة بين اإلمكان والتحقُّق في الجغرافيا السياســية اإلسالمية اليوم ليست ضربة الزبٍ، أو قَدَرًا مقدورًا ال يتبدل، وإنما هي حصاد مسار تاريخي اتَّسم بصعود القوى األخرى، بالتزامن مع تراجع قوة المسلمين العسكرية، ووهَن عزائمهم السياســية، وضعف حاسَّتهم اإلســتراتيجية، والحرب سِجال، واأليام دولٌ، وموازين القوى الدولية ال تفتأ تتبدَّل. على أن التحوالت التاريخية الكبرى تبدأ دائمًا بأحالم عسيرة المنال. ومن التجارب الغنيــة بالخبــرة والعبرة في هذا المضمار تجربة االتحاد األوروبي؛ وهي تجربة نرى أنها نجحت نجاحًا باهرًا، خصوصًا إذا أخذنا في االعتبار الظروف المأساوية السابقة عليها، وهي ظروف الحربين العالميتين. فقد بدأ االتحاد األوروبي في شــكل حُلم لدى فالســفة ومثقفين منذ القرن الثامن عشــر، أحيوا من خالله الذاكرة الوحدوية )، موحِّد أوروبا الغربية 814 األوروبيــة التــي ترجع إلى عصر الملك شــارلمان (ت . ثم تحول حُلم 476 والوسطى ألول مرة منذ انهيار اإلمبراطورية الرومانية الغربية عام الوحدة األوروبية مســارًا عمليًّا تحت صدمة الحربين العالميتين في القرن العشرين، والخــوف من الخطر الســوفيتي. وقد ظهرت مدارس ثــ ث ضمن الوعي بالوحدة األوروبية والسعي إليها، منتصف القرن العشرين:  مدرسـة فيدراليـة دعـت إىل وحـدة اندماجيـة كاملـة متحـو احلـدود بـن الـدول األوروبيـة.  ومدرســة كونفيدراليــة أرادت وحــدة تنســيقية مرنــة، وتعاونًــا بــن دول ذات ســيادة كاملــة.  ومدرسـة وظيفيـة فضَّلـت البـدء بتوحيـد قطاعـات اقتصاديـة عابـرة للحـدود الوطنيـة. لكن المنطق العملي الذي تبنَّته المدرســة الوظيفية هو الذي ساد في نهاية المطاف، فســارت الوحدة األوروبية ســيرًا تدريجيًّا عبر توحيد القطاعات االقتصادية، ابتداء . ثم توالت المســيرة في شــكل لبِنات صلبة 1951 من قطاعي الفحم والحديد، عام ومتراكمــة، إلــى أن وصلــت الوحدة مرحلــة النضج ممثَّلة في الحــدود المفتوحة والتنســيق اإلســتراتيجي. ولعل أهم األسباب وراء نجاح فكرة االتحاد األوروبي هو الفكرة في األســاس تطورية وتطوعية، وتقوم على التوسيع السِّلمي لنطاق القِيَم " أن .) 92 ( " المشتركة

Made with FlippingBook Online newsletter