Together Apart-(A)

ولاحظــت أنّ النــاس فــي الأوقــات العصيبــة تمســي أشــدّ حساســيّة وتفهّمًــا. وشــهِدتُ أننــا نســتطيع إمضــاء أوقاتنــا فــي نفــس المــكان وفــي الآن ذاتــه فــي عوالمنــا الخاصّــة، ورأيــت أن هـٰــذا الأمــر يتطــوّر بالاحتــرام. وتنبّهـت إلـى أن الوقـت يجـري بـا توقّـف كمـاء النهـر. وأنّـه يجـري بهـدوء ويمضـي، مـا لـم يُجـزّأ صُنعيّـا إلـى اجتماعـاتٍ وأنشـطةٍ وسـاعات سـفرٍ. وقـد أحيـا الوقـت فـي بالـي مـرارًا وتكـرارًا ذكـرى جدّتـي أمّ أبـي. تذكّرتهـا لأنهـا ولـدت فـي إسـطنبول؛ وقضـت الحمـى الإسـبانيّةُ علـى أمهـا وهـي لا ت ـزال ذات 1910 سـنة ثمانـي سـنين. وكانـت جدّتـي تقـول إنّهـا فـي ذٰلـك اليـوم اسـتيقظت فـي حِضـن أمّهـا فــكان بدنهــا بــاردًا كلــوح مــن الجليــد. وكانــت تقــول أيضًــا وهــي ذاهلــة العينيــن شـاخِصَتُهما: «مـعَ أنّهـا كانـت لأيـامٍ طـوالٍ تُشـوَى فـي نيـرانٍ حاميـةٍ». وإنّ جدّتـي فقـدتْ أباهـا أوًّ فـي الحـرب العالميـة الأولـى، ثـم أسـلمت أمّهـا للحمـى الإسـبانية، فتربّـت بعدئـذٍ لـدى عمّتهـا. ووَفْـق مـا رَوتـه جدّتـي فـإن أبنـاء عمّتهـا قـد سـيقوا إلـى الحـرب أيضًـا، فكانـت تحـاول كبـح أحزانهـا بالتنظيـف المسـتمرّ. فلـم تـرث جدّتـي مـن عمّتهـا لا أبيـض ولا أصفـرَ، بـل هَوسًـا بالنظافـة. إذ كانـت دومًا تغسـل كل شـيءٍ، ولـم تكـن تطمئـن إلـى نظافتـه وتعقيمـه حتّـى باسـتعمال عشـرات الصّوابيـن. وكانـت تقـول إن موظّـف الصّحـةِ كان يمُـرّ بالحـيّ بيـن حيـنٍ وآخـرَ، ففـي طفولتهـا لـم يكـن الأطبـاء كُثُـرٌ ولا المشـافي. وكان مُوَظّـف الصحـة -الذي تثمّـنُ أُمّهـا نصائحَه وتتحـدّث عن ـه بإجـالٍ- يمـرّ بالأحي ـاء أيضًـا إذا رمـت ب ـه الأقـدار إليهـا حي ـن كان جسـم جدّتـي الهزيـلُ بعـد تيتّمهـا يصـارع نوبـات البُـرَداء (الملريـا). فكانـت جدّتـي تقـف فـي طريـق هـٰـذا الموظـف المسـكين علـى نيّـةِ إيجـادِ حـلّ لمشـكلتها وإحساسًـا منهـا أن أمّهــا أرســلته لهــا، فتســأله عــن دواءٍ لمرضهــا الــذي جعلهــا ترتجــفُ طــوال الوقــت وحرَمَهـا ف ـي اللي ـل طع ـم الن ـوم. ف ـا ب ـد أنّ سـؤال طفل ـةٍ ذات ثمان ـي سـنين كان يرب ـك مُوظـفَ الصحـة ويحي ّـرُهُ. فـكان يهمـس قائ ـاً لهـا: إن فـي حقيبت ِـهِ حَب ّـا يُفي ـد فـي حالتهـا المرَضيّـة؛ ثـمّ يُتبِـعُ كلمـه بالقـول: «ولـٰـكنْ هـٰـذا سـعرُهُ، فـإن اسـتطعت إحضـار المـال أعطيتُـكِ الـدواء». فكانـت جدّتـي تعـود إلـى البيـت جاريـةً؛ ثـم ترجـع إلـى الموظـف بمـالٍ أخذتـه مـن عمّتهـا. لقـد كانـت تـروي لنـا كل هـٰـذه الأمـور، وتقـول عـن ذٰلـك الحَـبّ مـا أنفعـه! وكانـت تقـول أيضًـا إنهـا لـم تـزل منـذ ذٰلـك اليـوم تتنـاول هـٰـذا الـدواء الـذي تعتقـد أنـه يحمـي مـن الحمّى الإسـبانية، بـل وحتى مـن كلّ الأمراض والأدواء.

180

Made with FlippingBook Online newsletter