البنـات، فكـن يقسـمن بعضهـا قضمـات صغيـرة، فيكـون نصيـب الأصغـر أو الأضعـف مجـرد قضمـة صغيـرة لا تسـمن ولا تغنـي مـن جـوع، ولكـن هـذه القضمـات الصغيـرة كانـت ترافقهـا قهقهـات مـن أعمـاق القلـب وكان لهـا طعـم مميـز لا شـبيه لـه ولا ينافسـه سـوى كـوب قهـوة تركيـة مـع بعـض الحلويـات منزليـة الصنـع بلمسـة أمـي التــي تخبزهــا بكثيــر مــن الحــب مــع وصفاتهــا الســرية لأشــربها وإخوتــي فــي شــرفة المنــزل أيــام العطلــة، نرتشــفها علــى مهــل بينمــا نتحــدث عــن أحلمنــا وطموحاتنــا ومشـاريعنا المسـتقبلية. ذات ي ـوم هجرن ـا مواضي ـع السياسـة والاقتصـاد ول ـم يكـن لأهال ـي الحـي وأمـي وأب ـي حدي ـث إلا عـن عـودة مـراد اب ـن الخال ـة خديجـة مـن السـفر بعـد سـنوات مـن الغربـة، وعمـا أحضـره مـن هدايـا لأمـه فـي محاولـة منـه لتعويضهـا عـن سـنوات غيابـه الطويلـة التـي ذرفـت فيهـا كل ليلـة دموعًـا حارقـة وهـي تتسـاءل عـن حالـه وتدعـوالله أن يكـون علـى قيـد الحيـاة وأن يعـود إلـى حضنهـا قبـل أن ترحـل عـن هـذا العالـم، وتهافـت الجيـران علـى منـزل الخالـة خديجة بعضهـم بداعـي الفضول ليعرفـوا سـبب غيابـه وانقطـاع أخبـاره كل هـذه السـنوات وأسـباب عودتـه، والبعـض الآخـر بـه أمـل فـي أن يحصـل علـى بعـض الشـوكولاتة الفاخـرة التـي عـادة مـا يحضرهـا المغترب ـون مـن ب ـاد المهجـر، لكـن ل ـم يخـرج أحـد مـن بيـت خديجـة إلا وهـو يتحـدث عـن حـال ابنهـا ووجهـه الشـاحب وحالـة المـرض التـي تبـدو عليـه مـن صوتـه المختنق ونوب ـات السـعال المسترسـلة الت ـي منعت ـه مـن رواي ـة قصت ـه الطويل ـة فـي الغرب ـة، فلـم يشـف فضولهـم لمعرفـة أسـباب غيابـه وهجـره لأمـه كل هـذه السـنوات، حتـى إن بعـض الجيـران كانـوا يتهامسـون بأنـه عـاد بعـد أن أصيـب بمـرضعضـال وأنـه قـرر قضـاء أيامـه الأخيـرة مـع أمـه لعلهـا تسـامحه وتغفـر قسـوة قلبه. وفـي الليلـة ذاتها بينمـا كن ـت ف ـي المطب ـخ أع ـد وجب ـة العشـاء برفق ـة أخت ـي، وكان ـت أم ـي كعادتهـا تقلـب قنـوات التلفـاز إذا بهـا تنـادي كل سـكان المنـزل «تعالـوا... أسـرعوا لتشـاهدوا مــا الــذي يحــدث فــي العالــم» كانــت أمــي امــرأة فطنــة لا يفوتهــا شــيء، شــديدة الحـذر والحـرص علـى سـامتنا، حتـى أن خوفهـا يصـل أحيانًـا حـد الوسوسـة والارتيـاب، جعلـت مـن متابعـة الأخبـار اليوميـة فـي التلفـاز وتصفـح المواقـع الإلكترونيـة عادتهـا اليوميـة، كأنهـا بذل ـك تعـوض تركهـا للدراسـة فـي صغرهـا مجبـرة بسـبب العـادات، فهـي لـم تكـف يومًـا عـن تثقيـف نفسـها والاجتهـاد فـي ذلـك لمجاراتنـا فـي النقاشـات السياســية والفكريــة أثنــاء ســهراتنا العائليــة، وهــي التــي لــم تدخــر جهــدًا ووصلــت اللي ـل بالنهـار فـي العمـل لنتمكـن مـن الحصـول عل ـى شـهادات علي ـا. ب ـدأت تحدثن ـا عـن الأخبـار التـي شـاهدتها، فهنـاك مـرضخطيـر يسـمى كورونـا يجتـاح العالم وينتشـر
39
Made with FlippingBook Online newsletter