يبحث الكتاب معضلة الفراغ الاستراتيجي والتجزئة (1971- 2018)) فيما يقوم بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية من علاقات قبل إنشاء المجلس وبعد تأسيسه. كما يتناول مسارات التعاون والصراع في تلك العلاقات، وتطورها خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، ومطلع الألفية الثالثة، وكذلك العوامل المحلية والإقليمية والدولية التي أثَّرت وتؤثر فيها سلبيًّا أو إيجابيًّا. ويسعى الكتاب لمؤلفه، الدكتور محمد صالح المسفر، بصفة عامة إلى محاولة فهم العلاقات الخليجية-الخليجية وتقييمها في إطار التداخل بينها وبين السياسات الإقليمية والدولية ودراسة اتجاهاتها والبحث في مصير الدول الخليجية.
تأليف: مجموعة من مراسلي الجزيرة
ه 1444 م – 2022 آب النسخة األولى: أغسطس/
5 ................................................................................ مقدمة محمد المختار الخليل 7 ..................................................................... تجارب ال تُنسى إلياس كرَّام 17 . ..................................................... كييف في يوم الحرب األول المعتز بالله حسن 31 . ............................................................ كنا هناك ساعة الصفر أمين درغامي 43 . ............................................................... المقاومة األوكرانية عامر الفي 51 . .................................................................... عادة سبوتنيك نور الدين الدغير 61 . ................................................................... ميديكا الفاضلة ستير حكيم 73 . ...................................................... جورناليستكا.. جورناليستكا سالم هنداوي 85 . ................................................. من أقصى الغرب.. إلى الحرب حسَّان مسعود
3
97 . ..................................................................... حياد الجزيرة عمر الحاج 109 ....................................... حكايات المعبر.. الجئون ليسوا كغيرهم! محمد البقالي 125 ................................................................. 2923 قصة الرقم سامر يوسف
4
مقدمة هذه تجربــة جديدة نخوضها في مضمار التعريف باإلعالم مربوطًا بأعالم المراسلين ممن تصدّوا للتغطية في أجواء الحروب، وهو نمط من الكتابة الخاصة دعت له أسباب في مقدمتها: – توثيــق تجربــة الجزيرة فــي جزء من عملها الذي ال تبــارَى فيه وفقًا للمتابعين المحترفين؛ وهو القدرة على تغطية األحداث المفتوحة، وما يتضمنه ذلك من شجاعة مراسليها وموظفيها، واستعدادهم للتغطية في أجواء الموت الرهيبة. – تقديــم تجربة حية بأقالم خائضيها ســاخنة متدفقة؛ فقد حرصنا على أن يصدر هذا الكتاب في أجواء الحرب، ولـــمّا يخلع الزمالء الكَتَبَة خوذاتهم، ولـمّا ينفضوا عنهم غبار الرحلة، ويتخلصوا من وعثاء سفر التغطيــة وأدخنة الجبهة المشــتعلة.. باختصار لم يخلعوا ألمة الحرب بعد. – ممارسة نمط جديد من الكتابة التاريخية، فالصحفي وهو يقدم الحقائق من ســاحة الحــرب؛ يهيّئ فع ًل المــادة التي سيســتقي منها المؤرخ المحتــرف مادته غدًا، وأي كتابة عن هذه األجواء التفصيلية لمؤرخي الغد تجعلهم يعيشون اللحظة أو ًل بأوّلَ، ويفهمون سياقات األحداث، فضًل عن تعليلها على الوجه الصحيح. هذه المادة ثريّة في محتواها؛ ثراء خبرة من شــاركوا فيها، رجا ًل ونســاءً، وكســبًا مهنيًّا، وتمرّسًا بساحات العمل المخيفة التي يختصرها البعض في صفة المراسل الحربي تأثُّرًا بترجمات سريعة، والواقع أن الصحفي المراسل أعظم من أن يكون مجرّد مراسل حربي... يُقبل هذا المراســل على الميدان حقيقة ال مجازًا، وحساباته المتيقّنة تقول إنه يمكن أن يكون من أول ضحايا هذه الحرب، نظرًا إلى خطورة المجال الذي ال تحميه فيه شارة الصحفي وال مهنيته، فهو جدير بوصف شهيد المهنة الحيّ..
5
يُقبل على العمل وفي ذهنه أنه يمكن أن يتحول إلى خبر عاجل، بدل نقل ذلك الخبر الذي يترقبه المتسمِّرون أمام الشاشات. يُقبل بقلب قويّ، هو قلب اإلنســان الذي يرى عنف اإلنســان على أخيه، ويرى حرص الطرفين على القتل، إن لم يكن التشفّي، ومع ذلك فهو يملك من القوة النفسية ما يجعله يقف مع نقل الحقيقة دون أي نقص أو تلوين، فهو بهذا يستحق وصف الشجاعة الصحفية الحقّة. ثــم، وهــو ينقل تلك األحداث، ال يغيب عنه قلب اإلنســان الذي يذوب حزنًا وكمدًا على ضحايا الحرب من بشر يُقتل وشجر يُقتلع وبناء يُدمّر وأرض تُحرق.. وباختصار حضارة تنهار كل أساساتها، فال يملك إال أن ينحاز لإلنسان وقضاياه، فهو بذلك يستحق وصف الصحفي أو المراسل اإلنسان. ولم نستطرد في الوصف والتعليل؟! وبين أيدينا مادة هي خير ما يوضح ما نرمي إليه في هذه التقدمة العجلَى، فعودوا إليها مستأنســين لحديث، ومنفعلين بحقائق، ومعجبين ومقدرين لشجاعة كتابها.. ففيها مغناة عن كل وصف، وغناء من كل تقرير أو تحرير. فهلم إلى هذه المائدة الملهمة، ففيها ما يشــتهيه الصحفيون، ويروي ظمأ عاشقي مهنة المتاعب. والله الموفق د. محمد المختار الخليل مدير مركز الجزيرة للدراسات
6
تجارب ال تُنسى إلياس كرَّام
لم يكن أمرا اختياريا أن أكون مراسال حربيا، ولعل ذلك لم يكن طموحي يوما، رغم أنني مغرم بالحياة العســكرية مذ كنت طفال صغيرا، بيد أن ظروف المنطقة المتقلبة بين حرب وحرب ومواجهة وأخرى، خاصة منذ التحاقي بقناة الجزيرة عام ألفين وثالثة، قد تركت آثارها وصقلت شخصيتي ودفعتني، مرغما أو ربما مقبال، إلى خانة المراســل الحربي. صفة ترافقني منذ نحو عقدين من الزمن حيث برزت في تغطيات الحرب على لبنان عام ألفين وستة، وفي متابعة الحــرب األهلية في ســوريا من جهة الجوالن المحتــل، وكذلك في الحروب المتتالية التي شــنتها إســرائيل على قطاع غزة المحاصر، فضال عن مواجهات ال حصر لها في القدس ومدن الضفة الغربية المحتلة.. فقد كنت شــاهدا على ذلك جميعا. لقد أضحى اسمي ووجودي على أي من جبهات القتال رديفا للحرب، أو حتى نذير شؤم لدى بعض من يبحثون عن الدعابة. فعندما أوفدتني قناة الجزيرة إلى أوكرانيا لتغطية التوتر الحاصل مع روســيا منذ مطلع شــهر ديسمبر/كانون تنبه المتابعون على وســائل التواصل االجتماعي لوجودي 2021 األول من عام الغريب هناك؛ على أرض العجم، وسألوا عن سبب مغادرتي فلسطين، بل جزموا بأن وجودي هناك يعني أن الحرب واقعة ال محالة، مما شــكَّل بحد ذاته عبئا ثقيال على كاهلي. فالحقيقة أنه ال أحد يرغب في أن يَزج بنفسه في أتون حرب من المؤكد أنها ستكون ضروسا. كنت طيلة الوقت في حالة صراع مع الذات؛ أحاول أن أقنع نفســي وأنا أتنقــل مــن جبهة إلى أخرى، في إقليم دونبــاس وبين مدينة وأخرى في مناطق أخــرى من أوكرانيــا، بأن الحرب لن تقع. أقول لنفســي: كيف تقع حرب في أوروبــا؟ ال بــد أن يتوصل أطراف الصراع إلى حل ســلمي يوقف قرع طبولها التي نسمعها هنا وهناك. والحقيقة أن قناة الجزيرة أحســنت فعال بإيفاد مراســل إلى منطقة التوتر في وقت مبكر جدا؛ قبل اندالع الحرب، فســبقت بذلك القنوات العالمية، ألن ذلك سيكون له أثر في قادم األيام عندما تندلع الحرب، وذلك من حيث تحضير
9
وإعداد المشاهد لفهم طبيعة التوتر، ومعرفة أسبابه، وتقدير تداعياته، ليس على طرفي الصراع فحسب بل على العالم بأسره. فعند وقوع الحرب لن يكون ثمة متســع من الوقت للخوض في أســبابها، بل سيكون التركيز منصبا على سيرها، ورصد تداعيتها. وكان علي بوصفي مراســ قضى تســعة عشر عاما من العمل في فلســطين أن أتأقلم ســريعا مع الواقع الجديد ميدانيا وسياســيا، وأن أحفظ أسماء مدن جديدة صعبة النطق، وأسماء مسؤولين سياسيين وعسكرين لم أنطق بأســمائهم من قبل، دون الوقوع في خطأ محرج. لقد كان تحديا جديدا أشــبه بتغيير الذاكرة دون تغييبها. اجتهــدت كثيرا في األيام األولى من إيفادي إلى أوكرانيا في التعرف على محاور الصراع، ودراســة أســبابه، وتتبع جذوره، وسبر أغوار العالقات الروسية األوكرانية قديما وحديثا. وهو أمر بدهي يجب على أي مراسل ينتقل في مهمة عمل خارجية أن يفعله، إذ سيســهل ذلك عليه مهمة التغطية، ويجعل شــرحها للمشــاهد أمرا سهال يسيرا. فكنت أواظب يوميا على قراءة المقاالت التحليلية، ومتابعــة عديــد من المواقــع األوكرانية المحلية، وأحــاول أن أفرِّق بين الغث والسمين، وكنت أحاول التوقف عند تصريحات ومواقف لسياسيين وعسكريين ودبلوماســيين أوكرانيين، مما ســاعدني على التعمق في فهم مختلف المواقف، وبلــورة جملــة من النقاط الهامة الســتقراء األزمة، ومعرفــة خفاياها وجوانبها المتعددة. والحقيقة أن هذه المتابعة الحثيثة ســاعدتني كثيرا في فهم منعطفات مهمة في األزمة الروســية األوكرانية، وســهلت علي مهمة نقــل األخبار، وتحليلها، ومحاولة تبســيطها للمشاهد العادي.. وفي غضون شهرين ونصف قبل الحرب تمكنت من إعداد كم كبير من التقارير الميدانية التي عكست جوانب الصراع، ال سيما في إقليم دونباس، فضال عن تقارير سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وحتى ســياحية كانت كفيلة بأن توفر لمشــاهدي الجزيرة قاعدة بيانات عن كثير من األمور والجوانب المرتبطة بالصراع، مدعمة بخرائط دقيقة ومعلومات غنية، وغرافيكس جذَّاب. 2022 وهكذا عندما اندلعت الحرب في الرابع والعشرين من فبراير/شباط
10
كان المتابع لقناة الجزيرة قد اطلع على كم كبير من المعلومات التي مكنته من أن يفهم األسباب والخلفيات التي أدت إلى اندالعها. ورغم أنني كرهت وقوع الحرب في نهاية المطاف فإنني كنت متصالحا مع ذاتي لما قدمته للمشاهد سواء يوم الحرب أو بعده؛ حينما اتخذت التغطية أبعادا إنسانية وعسكرية مختلفة جدًّا. كانت المسافات الطويلة التي قطعتها طيلة فترة وجودي في ميادين المعارك بأوكرانيا، التي امتدت على مدى ثالثة أشهر ونصف، من أشد وأقسى ما واجهني من متاعب، وأثقلت كاهلي وكاهل زميلي المصور لبيب جزماوي، رفيق الدرب. خاصة لمن اعتاد مثلي المسافات القصيرة نسبيا في فلسطين؛ إذ كنا نقطع يوميا كيلومتر على أقل تقدير، متنقلين من 500 كيلومترا و 350 مســافات تتراوح بين مدينــة إلــى مدينة ومن قرية إلى قرية في إقليم دونباس الذي قطّعت حرب عام أوصاله كليًّا وضاعفت مســافات التنقل بين مناطقه. أذكر أنني كنت يوما 2014 أعد تقريرا عن ضحايا الحرب ممن تعرضوا إلصابات جرَّاء األلغام أو مخلفات ، وقد كانت عناصر التقرير 2014 الصواريــخ التي لم تنفجر فــي مواجهات عام جاهــزة ومتكاملة باســتثناء أن أعثر على أحد ضحايا هــذه األلغام، وكان هذا الشــخص يســكن في ريف مدينة ماريوبول، حيث تطلّب الســفر إليه من مدينة كرامتورســك يوما كامال تقريبا؛ من الســاعة الثامنة صباحا حتى الحادية عشرة ليال، وذلك من أجل اســتخدام مداخلة له في التقرير ال تتعدى عشــرين ثانية. لقد كان أمر التنقل منهكا جدا، ال ســيما في قرى نائية تكاد تخلو من الناس، حتى إننا تســاءلنا في أنفســنا ونحن نسير كل هذه المسافة: من يعيش هنا؟ هل حقا ثمة بشر؟ هل نحن على األرض أصال؟! من أشد المتاعب والمآسي التي واجهتنا خالل التغطية؛ " الجنرال برد " وكان درجة تحت الصفر وأحيانا أكثر من 18 حيث كانت درجات الحرارة تتدنى إلى ذلك، خاصة حينما تصاحبها عواصف ورياح وثلوج كثيفة كانت تجعل الشخص الواقف أمام الكاميرا يتسمَّر رغم كل طبقات المالبس التي يرتديها. كنت أحيانا أصل إلى حد عدم الشعور بوجهي الذي كان يبدو كأنه أصيب بالشلل من شدة البــرد. أذكر يوما، وأنا في ضواحي مدينــة ماريوبول، أني اضطررت إلى إعادة تســجيل الوقفة أمام الكاميرا نحو عشــرين مرة، إذ لم أكن أقوى على أن أُطبق الفك العلوي على الفك السفلي، أو أن أنطق مخارج الحروف على نحو سليم
11
من شدّة البرد الزمهرير. وهكذا كان الحال في خاركيف بشمال شرق أوكرانيا، التي دخلتها وهي خاوية على عروشــها تحت قصف صاروخي ومدفعي شديد، ووسط عاصفة ثلجية أعاقت تحركنا. كان الدخــول إلى مدينــة خاركيف يتطلب كثيرا من الجرأة واالســتعداد والتحضير المسبق، فضال عن التغلب على خوف المساعد والسائق األوكرانييْن اللذين رفضا بادئ األمر التوجه إلى هذه المدينة المنكوبة. توجهنا يومها من مدينة دينبرو شماال إلى خاركيف، وال أبالغ إن قلت إننا كنا وحدنا من يســلك الطريق إلى الشــمال صوب خاركيف بينما كانت الجهة المقابلة للطريق الرئيســي نحو دينبرو جنوبا تزدحم بسيارات وحافالت الفارين منها بسبب الحرب الدائرة هناك. أن تدرك أنك تزج بنفسك في ميدان المعركة بينما يهرع اآلخرون هربا وخوفا على حياتهم هو بحد ذاته مبعث خوف. عندما دخلنا إلى خاركيف واجتزنا أول حاجز عســكري كان مشهد الدمار هو الطاغي.. شــوارع فارغة تماما من المارة إال من بعض األفراد هنا وهناك. أينما وليت نظرك تجد محال تجارية مدمرة ومنازل اشتعلت فيها النيران. هل هذه هي خاركيف التي دخلتها قبل الحرب ببضعة أيام وكانت تضج بالحياة والناس وصخب السيارات؟ أرى أمامي مدينة أشباح، رائحة الموت والنار تنبعث من كل مكان.. ســيارات متفحمة على قارعة الطريق، زجاج نوافذ متناثر في كل حدب وصوب، مياه متجمدة في أنابيب أصابها القصف. بالنســبة لي كان الوصول إلى خاركيف بحد ذاته إنجازا صحفيا كبيرا في أيــام الحــرب األولى، لذلك لم أفكر كثيرا في الخوف أو الموت، بل في كيفية الظهور سريعا على الهواء لنقل أهوال ما كانت عيناي تراه إلى العالم كله. لقد كان طاقم الجزيرة من أوائل من دخل خاركيف بعد اندالع الحرب وبث منها، كما كانت القناة سباقة قبل ذلك في مدن وقرى إقليم دونباس ومدن ماريوبول ودينبرو وكرامتورسك وسالفيانسك وغيرها كثير. قبل أيام من وقوع الحرب كانت كل المؤشرات تدل على أن األمور تتجه نحو تصعيد خطير، وأن وقوع الحرب أصبح قاب قوسين أو أدنى. كان مكوثي فترة طويلة في إقليم دونباس قبل موعد الحرب عامال إيجابيا أحسب أنه مكنني
12
من قراءة الميدان على نحو سليم، وهو ما ساعدني على توقع ساعة الحرب. إن القدرة على استطالع الوضع الميداني واستقراء متغيراته مسألة مهمة ألي مراسل حربي أو ميداني. قبل الحرب بيوم كنت أقوم بجولة رفقة قوة عســكرية أوكرانية على تخوم بلدة بوباســنا في إقليم دونباس. يومها أيقنت تماما أن تغييرا عســكريا كبيرا قد طــرأ فعال على الخطوط األمامية للجيش األوكراني، فقد الحظت ازدياد أعداد الشــاحنات المحملة بالدبابات والوقود والذخيرة واألغذية والحطب، التي كان يُدفع بها إلى الخطوط األمامية للجبهة، وكان ذلك مؤشرا على استعداد القوات األوكرانيــة للمكوث وقتا طويال في ميــدان المعركة. لقد نجحت يومها، وبعد جهد كبير في إقناع القائد العسكري المسؤول بأن أظهر في بث مباشر من داخل أحد الخنادق العسكرية، وهو أمر يحظره الجيش األوكراني لكيال يكشف الطرف اآلخر مواقعهم واســتحكاماتهم من خالل إشارات الشرائح الخلوية المستخدمة فــي جهــاز البث. لقد كانت قناة الجزيرة يومها أول قناة عالمية تبث من خنادق الجيش األوكراني بثًّا مباشــرا. كنت يومها في حالة انفعال شــديد بهذا اإلنجاز، وأيضــا بســبب البرد الشــديد والقصــف المدفعي الذي ال يتوقــف من حولنا والغــوص في وحل لزج يعيق حركتنــا. قلت يومها على الهواء وأنا داخل هذا الخندق العســكري: إنني أشعر وكأني في فيلم من أفالم الحرب العالمية الثانية التي اعتدت مشاهدتها. جزمت يومها بأن السؤال لم يعد عما إذا كانت الحرب ســوف تندلع أم ال، بل أصبح من اآلن فصاعدا: متى ســاعة الصفر؟ وبالفعل، بعد أقل من أربع وعشرين ساعة من هذا البث وقعت الحرب! لقد كان أمر الوصول إلى المواقع المتقدمة في بوباسنا يومها محفوفا بكثير من المخاطر والتحديات، حيث مكثنا رفقة القوات األوكرانية نحو ساعة ونصف، نتنقل رويدا رويدا وسط إحدى الغابات، ونتفادى سقوط القذائف المدفعية، التي كانت تســقط حولنا، حتى تمكنا أخيرا من الوصول إلى الخطوط األمامية على خط وقف إطالق النار. ومع وقوع الحرب شــكلت الظــروف المناخية القاهرة والطبيعة الجغرافية ألوكرانيــا، خاصة في الجانب الشــرقي منها تحديــا إضافيا، فنحن نتحدث عن
13
مناطق مفتوحة ومروج وســهول واســعة تكسوها الثلوج على مد النظر، وكأنها صفحة بيضاء دون جبال أو تالل أو ألوان ترشدك إلى قبلتك أو تساعدك على تحديــد موقعــك أو تدلك على المواقع التي يقصفها الجيش الروســي أو تلك التــي وصلت إليها قواته في زحفها الســريع داخل األراضي األوكرانية في أيام الحرب األولى. لقد كان ذلك من أخطر األمور التي واجهتنا؛ فأنت تسير في مناطق وكأنك تائه أو أسير بيد السائق والمساعد المرافق لك. لقد اعتدت في تغطية الحروب والمواجهات على جبهتي ســوريا ولبنان أن أستدل على الطرف اآلخر بالطبيعة الجغرافية وخاصة الجبال والتالل، أما هنا، في دونباس، فال شيء من هذا البتة. فراغ شاســع تطلب منا اتخاذ مزيد من إجراءات الحيطة والحذر، والتأكد دائما في كل خطوة من أننا ال نجتاز مناطق خاضعة لســيطرة القوات الروســية، وأن نتفادى أن نعلق وسط منطقة تتعرض لقصف متبادل من الطرفين. منــذ اليــوم األول لوصولي إلى أوكرانيا اكتشــفت أن قلة من األوكرانيين مهتمون بالشــؤون السياســية والعســكرية والصحافية للبالد، وكان البحث عن مساعد ومرافق محلي يتقن اللغة األوكرانية واإلنجليزية في آن معًا أمر في غاية الصعوبة، وإذا وجدت شــخصا كهذا فستكتشــف سريعا أنه ال يمتلك أي حس صحفي ولو في الحد األدنى، وبوصفي مراسال عاش وخاض حروبا ومواجهات مــن قبــل فقد كان علي أن أوجّه مرافقي طيلــة الوقت من أجل الحصول على المعلومة وعلى األخبار والمقترحات التي يمكننا أن نحوّلها إلى تقارير تلفزيونية مــن الميدان، وإال فلن ننجز شــيئا. كان هــذا بحد ذاته أمرا مرهقا ومبعث قلق دائم بالنســبة لي؛ إذ كان علي أن أقدم لمســاعدي مقترحات لتقارير ميدانية كي يقوم بالبحث والتقصي عن عناصرها. المهم أنني وُفِّقت في الحصول على هذا المرافــق، ولكن في اليوم األول النــدالع الحرب وأنا في عز االحتياج إليه إذا به يفر عائدا من كرامتورســك إلى العاصمة كييف بادعاء أنه اســتُدعي للخدمة العسكرية في صفوف االحتياط. قضيت أياما بدون مساعد محلي، لكن ما خفف من تأثير هذا األمر هو وجودي المسبق في إقليم دونباس لفترة طويلة كما قلت آنفا، وحرصي على أن أحتفظ لنفسي بمصادر معلومات، فضال عما جمعته من معطيات أساسية عن الصراع.. كل ذلك مكنني من أن أستمر دون أن يتأثر عملي
14
الصحفي. إن هذه التجربة بحد ذاتها تؤكد أن المراســل يجب أال يكون أســيرا ألي مساعد أو أي جهة أخرى؛ بل عليه أن يكون مستقال وقادرا على االحتفاظ لنفسه بمصادر معلوماته الخاصة. ومع ذلك فال يمكن أن يستغني المراسل مدة طويلة عن مرافق محلي يتقن اللغة األوكرانية، فهو مفيد جدا للتنقل والتعامل في منطقة تشــهد حالة حرب، وتنشتر بها في كل مكان حواجز الجيش األوكراني، والقوات الخاصة، والحرس الوطني. ومع استمرار الحرب أخذ المتعاونون المحليون (الفكسر) يلعبون دورا جديدا ال يمت إلى الصحافة بصلة؛ إذ اكتشــفت مبكرا أن المتعاون يقوم بدور الرقيب العسكري الذي يحاول إعاقة تقدمنا أو منعنا من تصوير مواقع عسكرية أو تحركات لقوات الجيش األوكراني، وكان علي أنا وزميلي المصور لبيب أن نخوض حربا من أجل منع دور الرقيب العسكري الذي فرض نفسه علينا دون استئذان. كان ال بد لنا أن نفرض موقفنا، وأن نصر على أن يتحرك المتعاون معنا إن هذا " لمساعدتنا ال أن يكون عائقا أمامنا، وكنا نضطر لحثه دائما على أال يقول ، بل أن يسأل ويستفسر ويطلب. وكنت مضطرا إلى " مستحيل، وذاك غير ممكن أن أصــر علــى موقفي حتى لو اضطررت إلى أن أبقى أنتظر في موقع ما ثالث ساعات أو أكثر لكي أحصل بعدها على موافقة الجيش، وذلك عن طريق اإلقناع كن لطيفا ودودا " الــذي تعلمتــه من عملي الميداني بفضل هذه القاعدة الذهبية . وهذا بالفعل ما حصل. ففي غابات مدينة دينبرو انتظرت " تحصل على ما تريد أكثر من ثالث ساعات الموافقة على تصوير االستحكامات العسكرية هناك. كما حصــل أيضــا في زباروجيا حينما رغبنا في الوصــول إلى أقرب نقطة للمفاعل النووي الذي أصيبت إحدى المنشآت فيه بقذيفة صاروخية قبل ذلك بيوم. لقــد حــاول المتعاون أن يقنعنا بــأن أمر الوصول إلــى المفاعل النووي مستحيل، لكنني كنت مصمّما على الذهاب. كنت حادّا وحاسما وقلت ساعتها: من يرد أن يرافقني إلى زاباروجيا فليكن جاهزا عند السابعة صباحا على مدخل الفندق. ورغم أن آخر حاجز عسكري استوقفنا ومنعنا من مواصلة السير فإنني تمكنت من خالل الحوار والجدال مع القائد من أن أقنعه بالسماح لي بالمرور، بل بمرافقتنا إلى الموقع أيضا. إن اإلصرار والمخاطرة المحسوبة هي من األمور األساسية لتحقيق الهدف والوصول إليه، خاصة عندما تحظى أيضا بمصور كلبيب
15
جزماوي؛ ال يهاب الصعاب وال المخاطر. أحيانا كنت ألتمس العذر لمرافقي في تردده؛ فاألوكرانيون، منذ أن وضعت الحــرب العالمية الثانية أوزارها لم يعيشــوا أهوال الحــرب. أجيال كثيرة منهم نعمت بالسالم والوئام. لم يعرفوا المعنى الحقيقي للحروب ولم يدركوا حجم ما تخلفه من دماء ودمار ومآسٍ. الحق أنه كان علينا أن نواجه أمرا آخر مع المتعاون والســائق وهو عامل الخــوف من الدخول إلى المناطق الخطرة التي تتعرض لقصف مثل زابوروجيا وخاركيف وغيرهما. كانت عملية اإلقناع تتطلب كثيرا من الصبر الذي بدأ ينفد. وكان علــي أن أوفّــق بين كثير من األمور اإلداريــة والميدانية في آن معا، وأن أحرص دائما على سالمة الفريق الذي يعمل معي، وأتأكد من كل شيء: الطعام، الوقود، وسائل اإلجالء من المنطقة على وجه السرعة إن اضطررنا إلى ذلك... وفي الوقت نفســه أحرص على تقديم رســالتي الصحفية بإتقان، سواء بالظهور المباشــر أو من خــ ل إعداد التقارير الميدانية، وفــوق كل ذلك كان علي أن أحاول تخفيف مخاوف أســرتي، وتبديد قلقهم الدائم، وأنا وسط معركة حامية الوطيس؛ وال ســيّما أنهم يعيشــون لحظة بلحظة حالة القلق والخوف، أما أنا الذي أعمل في الميدان فمنشــغل على الدوام، وال أعير الخوف أو الخطر، أو حتى الموت، الكثير من التفكير. خالصة القول: لم يكن ســهال أن أغطي حربا ليســت في وطني وال على أرضي، ولم يكن سهال أن أوفق بين العمل الذي أريد له أن يكون متقنا من جهة، وعامل الخوف والقلق ومواجهة الصعاب والتحديات من جهة ثانية، لكن حينما أنظر إلى الوراء أجد أن كل هذه األمور مجتمعة قد جعلت المهمة ليست مميزة التي ال تُنســى. بل أصدقكم القول: " تجارب العمر " فحســب بل تجربة من أهم إنني أرغب في أعماقي في أن تتكرر!
16
كييف في يوم الحرب األول المعتز بالله حسن
18
الوصول إلى كييف كان أول ما ســألت عنه تانيا، مســاعدتنا المحلية التــي أقلتني مع زميلي المصور تشــاغطاي من مطار كييف إلى مركز المدينة حيث ســنقيم: هل هناك من األوكرانيين من يرى أن روسيا هي الوطن األصلي؟ وأن االنسالخ التام عنها خطأ؟ أخبرتني المســاعدة بأن ثمة نظرة مختلفة بين كبار الســن والشباب اتجاه روســيا؛ فكبار الســن نشؤوا في فترة كان فيها االتحاد السوفيتي ما زال قائما ثم شــهدوا انهياره وانفراط عقد جمهورياته.. ولقد عرفوا الروســية لغة رسمية في المدارس، وتشــبعوا بثقافتها ومفرداتها، وهم يستشعرون في أنفسهم القوة حين يلفظون كلمة روسيا. ثم سكتت تانيا قليال قبل أن تضيف وهي تنقل بصرها بين المباني الواقعة بعد الثورة لم يعد باإلمكان " علــى جانبي الطريق المرصوف بحجارة صغيــرة: . " المجاهرة بحب روسيا ، وهو " االســتقالل " المطل على ميدان " أوكرانيا " كنا قد وصلنا إلى فندق الميدان الرئيســي في العاصمة كييف. هذا الميدان الذي ســميت باسمه الثورة (ثورة الميدان األوروبي)، وهو المكان ذاته الذي شــهد 2014 األوكرانيــة عام سلســلة من األحــداث العنيفة انتهت بفــرار الرئيس فيكتــور يانوكوفيتش إلى روسيا، بعد أن اتهمه المحتجون بالتراجع عن المضي في تحقيق اتفاقية شراكة مع االتحاد األوروبي كانت ســتقصي إلى حد كبير االتفاقيات التجارية المبرمة بين روسيا وأوكرانيا. هل ستشن روسيا هجوما؟ كنت أتابع بشكل يومي أعداد القوات الروسية التي احتشدت على الحدود األوكرانية من جهة الشرق، وداخل األراضي البيالروسية، وفي شبه جزيرة القرم، والتي كانت تصل في مجموعها، بحسب بعض التقديرات والتقارير االستخبارية
19
الغربية التي كانت تنقلها وسائل اإلعالم، إلى حوالي مئة وثالثين ألف جندي. فــي بعــض مناطق لوغانســك ودونيتســك الواقعتين شــرقي البالد، كان االنفصاليون الناطقون بالروســية قد أعلنوا مناطقهــم جمهوريات انفصالية عن ، وخالل الســنوات الماضية، وبدعم روســي، كان 2014 أوكرانيــا منذ أحداث االنفصاليون قد تمكنوا من فرض حدود تفصلهم عن الجيش األوكراني. لم تكن روســيا تقدم تبريرات واضحة لحشــودها العسكرية على الحدود األوكرانيــة، ســوى أن جنودها يتحركــون على أراضيهــا، وأن الجنود الروس الموجودين في بيالروسيا هم ضمن قوات تقوم بمناورات مشتركة. في الوقت ذاته كانت هناك تحذيرات غربية من هجوم روسي وشيك على أوكرانيــا.. الواليات المتحــدة ودول أوروبية عدة، منها بريطانيا، كانت تتحدث ليال ونهارا عن قرب هذا الهجوم. داخل العاصمة كييف كانت األجواء هادئة مع بدايات شهر فبراير/شباط.. اصطحبــت زميلي تشــاغطاي وحملنا جهــاز البث الصغيــر، والكاميرا، وباقي المعدات الالزمة للتصوير وبدأت أشــارك في النشــرات اإلخبارية على شاشــة الجزيرة وأتنقل بين أماكن متعددة. الذي يتوسطه " خريشاتيك " معظم الوقت كنا نقضيه في العمل بمحيط شارع ، وذلك لرمزية المكان وقربه نوعا ما من باقي " نيزاليجنوستي " ميدان االستقالل المؤسسات الرسمية في البالد. تتــوزع على جانبي هذا الشــارع محــال تجارية كثيــرة، منها ما صار في الســنوات األخيرة مركزا لماركات عالمية شــهيرة. وهو مقصد كثير من أهالي " بيسارابسكي " العاصمة ممن يرغبون في الســير في مركزها بين الميدان وسوق الشعبي. في ذلك الوقت لم أكن أشعر بأن الناس هنا مهتمون كثيرا بما يجري، كان ثمة شعور لدى كثيرين بأن كييف ستكون بعيدة عن كل ما يحدث، أو على األقل هذا ما قد يستشعره من يرى الحياة في ذلك القسم من المدينة، بعيدا عما تتناقله وسائل اإلعالم الدولية. االبتعاد عن ذلك الشــارع، واالنتقال إلى مناطق أخرى في العاصمة، كان
20
من شأنه أن يخبر بحكاية أخرى، وقد رويتها في قصة إخبارية عن رأي الشارع األوكراني حول احتمال هجوم روسي وشيك على بالدهم. كان محور تلك القصة بســيطا، يعتمد على عرض وجهتي نظر، إحداهما تــرى أن الحــرب قائمة وقادمة ال محالــة، وأخرى ترى أن الهدف مما تقوم به روسيا ليس الحرب نفسها، بل الضغط على أوكرانيا، أي أن الحرب لن تقوم. التحضير لهذه القصة مر بنقطة كان ال بد من التوقف عندها، وهي وجود منظمات راديكالية تدرب المتطوعين على حمل السالح. ، وهي إحدى تلك المنظمات، كانوا يرون " ناشيونال كورب " مسؤولو منظمة أنه ال بد من صِدام حقيقي سيقع بين الجيش األوكراني والجيش الروسي، وأن المسألة ليست مجرد حشود عسكرية روسية على حدود أوكرانيا؛ بل معركة قريبة هــي جزء من حرب أكبر بدأت قبل ثماني ســنوات، أي منذ الثورة األوكرانية، وســيطرة روســيا على شــبه جزيرة القرم، وتحكم االنفصاليين في مناطق في لوغانسك ودونيتسك بشرق أوكرانيا. أخبرتني مســاعدتنا المحلية بأنها تستطيع التواصل مع أحد المسؤولين في هذه المنظمة اســمه أليكســي، وبالفعل دعانا أليكســي إلى أحد التدريبات التي يقومون بها. كان تصوير تلك التدريبات سيعطي قصتي اإلخبارية مساحة بصرية جيدة، وفي نفس الوقت سيدل على وجود نشاط تحضيري لمواجهة مرتقبة. اختارت تلك المنظمة لتدريباتها معمال أُغلق بُعيد انهيار االتحاد السوفييتي، وصارت تســتقبل في ساحته المتطوعين من المواطنين الراغبين في تعلم حمل السالح وبعض تقنيات االشتباك في المعارك. بحســب أليكســي فإن منظمته وحدها كان لديها أكثر من خمسة وعشرين ألف متطوع دربتهم على حمل السالح. كانت المنظمة تؤمّن البنادق المستخدمة في التدريب، وترحب بمن يجلب سالحه معه، أما األلبسة فكانت من المواطنين أنفسهم بحسب أليكسي. كانت أعداد المواطنين ذاك اليوم بالعشرات، معظمهم ارتدى ثيابا عسكرية، ومن لم يجد بندقية يحملها كان يحمل بندقية خشــبية.. التركيز في ذلك اليوم
21
كان على وضعيات الوقوف في حاالت الحراسة أو االشتباك. هي المنظمة األوكرانية الوحيدة التي ترى أن " ناشــيونال كورب " لم تكن الحــرب القادمــة هي أمر ال مهرب منه، كان هنــاك عدة منظمات أخرى تجهز النــاس للمرحلة المقبلة؛ بعضها يدرب المواطنين على الرعاية الصحية كالعناية بالجرحى، وآخرون يقومون بالتدريب على تنظيم فرق التعاون األهلي الميداني وقت الحرب. تكافح لتهزم الخوف الذي تنشره " داشا " في جزء آخر من العاصمة كانت أخبــار الحرب في محيطها، فالمعركة الحقيقية في رأيها ليس شــرطا أن تكون عسكرية على األرض. تمتلك داشا مقهى صغيرا يتسع لبضعة زبائن فقط، كانت ترى أن الحرب لن تفيد روسيا وال أوكرانيا، وأن من شأن حرب كهذه أن تشعل العالم كله، وأن األخبار الحالية تؤثر في األوكرانيين، وتنشر الذعر في الشارع، وأن هذا هو بيت القصيد تماما بالنسبة لموسكو. جمعــت هاتين الفكرتين في قصتي، ومع ذلك كانت هناك في تلك الفترة أســئلة ثقيلة في الشــارع األوكراني تتعلق بالوضع الراهن، أســئلة بحجم: هل ؟ وهل ستستطيع الوقوف 2014 ستدفع أوكرانيا ثمن مسارها الذي شقته منذ عام في وجه خصم بحجم روسيا إذا اندلعت الحرب؟ كان األوكرانيون منقســمين بين مقتنع بهجوم روسي وشيك على بالدهم، وبين من يرى أن ما يحدث ما هو إال جزء من رقعة المعركة الكبرى بين روسيا والغرب. حارك دبلوماسي في كييف مــكان إقامتنا أنا وزميلي المصــور في فندق أوكرانيا مثالي لتغطية ومتابعة الحراك الدبلوماسي الذي كانت تعيشه العاصمة األوكرانية في تلك األيام. فقد كان الفندق قريبا من وزارة الخارجية، ومن البرلمان، وقصر مارينسكي التاريخي الذي يســتقبل فيه الرئيس فولوديمير زيلنسكي ضيوفه من الرؤساء والمسؤولين الدولييــن، وقرب هذه األماكن من مكان إقامتنا يعني أننا نســتطيع التوجه إليها مشــيًّا علــى األقــدام، وهذه نعمة حقيقيــة بالنظر إلى االزدحــام المروري في
22
العاصمة أحيانا، ولكنه في نفس الوقت كان نقمة بالنســبة لألوزان الثقيلة التي كنــا نحملهــا معنا، أو نجرها خلفنا من الكاميرا إلــى جهاز البث وملحقاتهما، إضافة إلى مستلزمات اإلضاءة. وغالبا ما كان علينا التوجه يوميا إلى أحد تلك األماكــن، إذ لم تنقطع يوما زيارة المســؤولين األوروبييــن وغيرهم من القادة الغربييــن لكييف، وفي اليوم الواحد كنا نتحدث أحيانا في النشــرات اإلخبارية عن عدة زيارات.. أذكر من هؤالء نوابا وأعضاء في المجلس األوروبي، ووزراء خارجية معظم الدول األوروبية، فضال عن رؤساء وزراء مثل: البريطاني بوريس جونســون، والهولندي مارك روته، والمستشار األلماني أوالف شولتز، ورؤساء فرنسا وتركيا وبولندا وغيرهم. لــم أر خالل عملي الصحفي زيارات دبلوماســية -بهذا الكم والتوقيت- لعاصمة واحدة كما رأيت في كييف. كان األوروبيون يحملون رســائل متشابهة خــ ل زياراتهــم تلك؛ وهي دعم كييف ضد تهديدات موســكو. بعض هؤالء الــزوار كان يخصــص يوما من زيارته للتوجه إلى شــرق أوكرانيا وتحديدا إلى منطقة دونباس. لقد كانت الصورة التي حاول األوروبيون رسمها بزياراتهم تلك ، وإن الناظر إلى هذه الصــورة ربما اعتقد أنه إذا " الدعم " تعنــي بكلمــة واحدة هاجمت موســكو كييف فإنها ستجد جيوشــا أوروبية عدة في مواجهتها، وهذا االعتقاد وإن كان مبالغا فيه واقعيا، فإنه يصف حجم رســائل الدعم التي قدمها األوروبيون إلى كييف. أثارت هذه الزيارات المكثفة، والوعود األوروبية بدعم واســع لألوكرانيين تســاؤالت عدة عما إذا كان هذا الدعم سيكون حقيقيا، إذا وقعت الحرب فعال ودخلت القوات الروسية إلى األراضي األوكرانية. كان واضحا أن األوكرانيين يحصلون على معلومات اســتخبارية تؤكد هذا الهجوم، وفي الوقت نفســه كانوا ينظرون بعين الريبة إلى تأكيد موسكو أنها لن تقوم بمهاجمة أوكرانيا. لقد تحدث الرئيس زيلينسكي وقتها عن أن استخبارات بــ ده تقيِّم كل التقاريــر الصادرة عن الغرب بقرب الهجوم، وعن الروس بنفي ذلك. كان األوكرانيون في األســابيع األولى من شــهر فبراير/شــباط يتساءلون
23
شــعبيا ورسميا عن المدى الذي يمكن أن يذهب إليه األوروبيون واألمريكيون في الدفاع عن أوكرانيا. السفاارت تنتقل غربا مع اقتراب شــهر فبراير/شــباط من انتصافه، زادت التقارير اإلخبارية عن هجوم روسي وشيك على أوكرانيا. كانت هذه التقارير معززة بصور أقمار صناعية تظهر زيادة في حجم القوات الروسية في محيط أوكرانيا، وانتقال أعداد من هذه الوحدات إلى أخذ وضع االستعداد للهجوم بحسب تقارير أمريكية، وفي المقابل كانت روسيا تنفي بشدة أنها ستهاجم أوكرانيا، في حين كانت دول أوروبية تصر على أن هذا الهجوم الروسي، إذا وقع، ستكون له عواقب وخيمة، وفي مقدمة تلك الدول بريطانيا. زار الرئيس الفرنســي ايمانويل ماكرون موســكو وكييف معا غير أن زيارته لم يكن لها أي نتائج تذكر، ولم تطمئن العالم بأنه لن تقع حرب، إذا ما استمر الوضع الحالي. كنت أســتمع إلى المؤتمر الصحفي للرئيسين الفرنسي ماكرون واألوكراني زيلينسكي من حديقة قصر مارينسكي، وكان واضحا أن ماكرون عاد من موسكو بخفي حنين. في صباح الثاني عشــر من فبراير/شــباط وصلت إلي معلومات تفيد بأن الموظفين غير األساســيين في ســفارة روسيا في كييف قد غادروها، وكان يوما مثلجــا كعــادة معظم األيام في هذه الفترة من العام في العاصمة، اضطررت فيه إلى ارتداد معطف سميك اشتريته مؤخرا، إذ لم تكف كثافة المعاطف التي جلبتها معي من أنقرة. لم يكن هناك أي حراك واضح في الســفارة الروســية عندما وصلت إليها، الروس كانوا قد دعموا نوافذ السفارة بتحصينات أمنية، ولم يكن هناك أيضا أي مظاهر احتجاجية في ذلك اليوم أمامها. كان سؤال المذيع لي خالل مشاركتي من أمام السفارة الروسية في كييف عن حركة الناس في الشوارع، وعما إذا كانت هناك في العاصمة طوابير للحصول على المواد األساسية.
24
أجبــت بــأن األوضاع في المدينــة كانت اعتيادية، وأن قســما من الناس يستشــعرون القلــق من األوضاع الحالية، ولم يكــن أي أحد من الذين تحدثوا إلينــا يتوقــع حربا قريبة، لكن ذلك تغير فجــأة مع إعالن الرئيس األمريكي جو بايدن تاريخ الهجوم الذي ستشــنّه روســيا على أوكرانيا، وقد حدد هذا التاريخ بالسادس عشر من الشهر نفسه (فبراير)، أي بعد أيام قليلة جدا. هنــا بــدأ الناس ينظرون بعين قلقة إلى مجريــات األحداث، زاد في ذلك " لفيف " إعالن ســفارة الواليات المتحدة في كييف نقل موظفيها من كييف إلى في غرب أوكرانيا في الرابع عشــر من فبراير/شــباط، وكانت تلك الخطوة هي الحبة األولى في مســبحة انقطع خيطهــا، فتوالت بعدها حبات أخريات، حيث أعلنت عشرات من الدول نقل سفاراتها إلى المنطقة الغربية من أوكرانيا. بوتين يعترف بلوغانسك ودونيتسك جمهوريتين مستقلتين عن أوكارنيا سألني زميلي المصور: هل ما زلنا على النافذة؟ عــادة ما كنا نقف كل في مكانه مــن المدينة التي يغطيها، ويحلو لزمالئنا المنتجين أن يبقوا صورنا على الشاشــة كل في مربعه. وربما كان هذا من أكثر األمــور إجهادا لي وأنا أراســل من الميدان، الوقــوف الطويل في نقطة واحدة والثبــات أمــام الكاميرا فترات طويلــة خالل التغطيــات المفتوحة أمر مجهد، خصوصا إذا استمر ساعات، كما حدث في ذلك اليوم. مرت خمســة أيام تقريبا على الموعــد الذي وضعه الرئيس األمريكي جو بايدن تاريخًا لغزو روســيا ألوكرانيا ولم يحدث شــيء. استهزأ الروس بالواقعة وســخرت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، من هذا التاريخ، أبلغونا بموعد الغزو للعام المقبل لننظم " ومــن الغرب، وقالت وقتها متهكمــة: ، ولم يكتف الروس بذلك بل وصل األمر إلى مطالبة روســيا باعتذار " إجازاتنا . " التجييش ضد بالدها " بريطاني عمّا سمته كنت أقف أمام وزارة الخارجية األوكرانية في ساحة دير القديس ميخائيل، وهو دير ذو قباب ذهبية، وكانت األمطار الغزيرة قد غســلت الســاحة وتمثال األميــرة أوليفــا الذي نقف بجواره. نجح زميلي المصور في حماية الكاميرا من المطــر عبر مظلة كانت معه، أمــا أنا فكنت قد تبللت تماما؛ فالمطر لم يتوقف
25
منذ ساعات. أخبرتني مساعدتنا المحلية بأن الرئيس الروسي سيتحدث، وما هي إال دقائق حتى قطعت الجزيرة تغطيتها، ونقلت كلمة الرئيس الروســي فالديمير بوتين. كانت كلمة مسجلة قبل وقت قصير فقط، وطويلة، لكن أهميتها أنها كانت للرئيس أمام مجلس األمن الروسي، ولم يكن معتادا -حسبما فهمت- أن تنقل كلمة الرئيس الروسي في هذا المجلس. كان واضحا أن خطوة كهذه تعني أن أمرا ما سيحدث، خصوصا أن الجلسة كانــت مخصصة لنقاش دعوة نواب مجلس الدوما الروســي للرئيس لالعتراف باســتقالل إقليمي لوغانسك ودونيتســك اللذين يسيطر عليهما االنفصاليون في . 2014 شرق أوكرانيا منذ عام لم تخب توقعاتي، هذه الجلسة الطويلة التي شهدت كلمات لوزراء الدفاع والخارجيــة ورئيس مجلس الدوما وغيرهم، كانت نهايتها إعالن الرئيس بوتين االعتــراف باإلقليمين جمهوريتين مســتقلتين، وأعقب ذلك توقيعه مع رئيســي اتفاقات تعاون عسكري. " الجمهوريتين المعترف بهما " كانت تلك إشارة واضحة وكافية بالنسبة لي إلى أن الحرب قادمة ال محالة. هجمات إلكترونية، وقوانين على عجل في حدود منتصف فبراير/شــباط كانت حركــة الطيران التجاري ما زالت مســتمرة رغم معاناتها، إذ أوقفت عدة شــركات رحالتها إلى أوكرانيا في ذلك الوقت بعد إعالن شركات التأمين الدولية إيقاف التأمين على الرحالت المدنية الذاهبة إلى هناك. كانت معظم الرحالت من مطار كييف في تلك األيام إما إلى مدينة لفيف في غرب أوكرانيا، وهي المدينة التي انتقلت إليها معظم البعثات الدبلوماسية، أو إلى خارج أوكرانيا، حيث طلبت معظم الدول من رعاياها ودبلوماسييها المغادرة ما دام ذلك ممكنا عبر الوســائل التجارية، حتى إن بعض الدول عينت طائرات إجالء لرعاياها. بالتزامن مع هذه التطورات كانت البالد تعيش على وقع هجمات إلكترونية ازدادت وتيرتها، وقد طالت هذه الهجمات مواقع لمؤسسات مهمة مثل: وزارة
26
الدفاع، والقوات المسلحة، والبنوك، مما تسبب في تعطيل خدمات تلك المواقع آمادًا مختلفة. تحدثت إلى العديد من األشــخاص فأخبروني بأنهم لم يســتطيعوا الولوج إلى حســاباتهم المصرفية عبر الجوال، وفي المقابل كانت البنوك تصدر بيانات مقتضبة تشير إلى أن ما يحدث هو خلل إلكتروني يتم التعامل معه، وكانت تبلغ زبائنها رسائل عبر موقعها بأن هذا الخلل يتم التعامل معه. كان واضحــا عــدم رغبة المســؤولين األوكرانيين في الســماح لمثل هذه الحوادث بأن تزيد من توتير الوضع وإثارة مخاوف المواطنين وإيجاد حالة من الهلع. كان صعبا من الناحية التقنية التأكد من أن الروس هم من يقومون بذلك، وقد تحدثت إلى الخبراء المعنيين في كييف فأخبروني بذلك أيضا، وأنا أفهم هذه النقطة تماما، إذ عملت على موضوع مشابه في تركيا التقيت خالله بعض الخبراء البارزيــن في مواجهــة الهجمات اإللكترونية، فأكدوا لــي صعوبة معرفة مكان انطــ ق هذا النوع من الهجمــات، ومع ذلك فإن جميع الخبراء الذين تحدثت إليهــم أثنــاء عملي على هذا النوع من الحوادث، متفقون على أنه حتى وإن لم يكن باإلمكان تحديد مكان إطالق الهجمات، فإنه باإلمكان تقدير الجهات التي تقف خلفها، وفقا لألضرار التي تتسبب فيها، وفي الحالة األوكرانية كان المتهم األساســي، بحســب هؤالء الخبراء، هم الروس. وكما قلت فلم تسلم المواقع الحكومية المهمة من تلك الهجمات بما فيها موقع وزارة الخارجية التي كانت تكثف اتصاالتها في تلك الفترة لحشد دعم دبلوماسي ضد التهديدات الروسية، وال موقع البرلمان. وبالتزامن مع هذه المشكلة التي كان يواجهها األوكرانيون كانت تصل إلى السلطات األوكرانية عشرات االتصاالت والبالغات عن وجود أجسام مشبوهة أو قنابل في هذا المكان أو ذاك، كما حدث يوم الثالث والعشرين من فبراير/شباط حيث وردت أخبار عن وجود قنبلة في البرلمان (الرادا)، وقد كنت هناك يومها وبعد تفتيش المبنى اتضح أن الخبر كاذب، وإذا عرفنا أن البرلمان األوكراني كان مشغوال في ذلك اليوم بالتصويت وإقرار عدد من القوانين ذات الطبيعة العاجلة،
27
كقانون التسليح الفردي، وفرض حالة الطوارئ في البالد يتضح األمر جليًّا. فبارير/ شباط 24 كان يوم الثالث والعشــرين يوما طويال ومُتعبا، عملت فيه طيلة نشــرات النهــار، واســتمر األمر حتى نشــرة منتصف الليل التي تحدثــت فيها عن إقرار البرلمــان باإلجماع فــرض حالة الطوارئ في البالد، وإعــ ن طلب االحتياط للمواطنين ممن أدوا الخدمة العسكرية، وتقدموا بطلب عند نهاية خدمتهم يفيد باستعدادهم لاللتحاق بالجيش عند الحاجة. كان الوضع متوترا، فكل هذه التطورات كانت في يوم واحد وهو أمر أثقل من أن يدرك أبعاده العقل دون تفكير عميق، لكن أنَّى ذلك والساعة تقترب من الواحــدة فجــرا فآثرت تأجيل هذا التفكير وذلك التأمل إلى ما بعد أخذ قســط من الراحة، فزحفت إلى سريري في الطابق الحادي عشر من فندق أوكرانيا في ميدان االســتقالل في كييف وأردت أن أنام غير أن ثمة شــخصا آخر كانت له إرادة مغايرة. لقد اتخذ بوتين قراره. استيقظت بعد برهة على أصوات انفجارات وركض في ممرات الفندق.. لقد بدأت روسيا مهاجمة أهداف في العاصمة ووقع ما كان العالم يحبس أنفاسه انتظارا له. لقد بدأت الحرب مع فجر الرابع والعشــرين من فبراير/ شــباط بــدأت أصوات انفجارات ضخمــة تُســمع في أنحاء العاصمة كييف. لم أعد أذكــر تماما أيّنا الذي اتصل أوال باآلخر، أنا أم زميلي المصور تشــاغطاي، ولكن ما أذكره أننا كنا نســابق الزمن لتحضير الكاميرا وجهاز البثّ، بعدما ارتدينا ما اعتقدنا أنه كاف لتدفئتنا. حاولــت أوال الحصول على معلومات عن مواقع الضربات، كان معظمها فــي أطراف كييف، في بوريســبول وبروفاري وغيرهــا، لكنها لم تكن وحدها. المعلومات األولى كانت تشير إلى هجمات صاروخية واسعة استهدفت، إضافة إلى كييف، مدنا مثل خاركيف، وأوديسا، وميكواليف، وخيرسون، وكراماتورسك وماريوبول. ركزت في عملي على نقطتين أساسيتين: األولــى هي رصــد كل ما يمكن رصده من معلومــات ميدانية عن حجم
28
الموجــة األولى من الضربــات الصاروخية، وتحديد األماكن المســتهدفة قدر اإلمــكان، ولــم يكن ذلك ســهال أبدا في ظل حالة الفوضــى المعلوماتية التي اجتاحت الساحة األوكرانية. أما النقطة الثانية التي انتهجتها في تلك الســاعة فكانت متابعة تصريحات المســؤولين األوكرانيين، وخصوصا الرئيس ووزيــري الخارجية والدفاع لفهم حجم تلك الضربة. كان ثمة سعي روسي بحسب ما فهمت الحقا لتدمير الدفاعات الجوية في محيط العاصمة وعدد من المواقع العسكرية األوكرانية. في الســاعات األولى للحرب كان الوصول إلى المعلومات حول خارطة الهجمات الروسية صعبا في ظل اتساع رقعتها، حاولت أنا وزمالئي الموجودون فــي مناطــق أخرى من أوكرانيا، كل مــن المدينة التي يوجد فيها، أن نقدم أدق المعلومات، لكن ما زاد من صعوبة األمر بالنســبة لنا في تلك الســاعات هو أن مساعدتنا المحلية لم تعد في وعيها من شدّة الذهول. كانت في األيام السابقة، ومنذ إعالن الرئيس الروسي اعترافه بلوغانسك ودونيتسك جمهوريتين مستقلتين، قد بدأت تخاف مما قد تؤول إليه األوضاع. حتــى ذلــك الصباح لم يكن ثمة أي مظاهر مســلحة في العاصمة. خالل األيام األخيرة كان هناك انتشــار أمني بســيط لعناصر من الشرطة، وكانت وزارة الداخلية قد نشرت رسائل عبر اإلنترنت تطلب فيها من السكان عدم القلق من هذا االنتشار، مؤكدة أن هدفه هو ضبط وحماية العاصمة. بحكم قوانين الجزيرة، كان يجب أن نبدأ أنا وزميلي بارتداء السترة الواقية .. ال أطيق هذا األمر، فوزن هذه " Press صحافة " والخوذة المكتوب عليها كلمة السترة في حدود عشرين كيلوغراما مع خوذتها، وكلما زاد الوقت الذي ألبسها فيه يصير شعوري بالوزن مضاعفا، ولكنها ضرورية في فترات الحروب لكونها نوعا من أنواع الحماية حتى ولو كانت حماية بسيطة، وللتعريف بأننا صحفيون. بدأت أنا وزميلي المصور العمل من الميدان نفسه، ذلك الميدان الذي كان منارة يتجمع الناس والســياح حولها في األيام الماضية التي قضيتها في كييف، وهــا هو اليوم أصبح شــبه مهجور إال من بعض المــارة. بدأ بعض المواطنين
29
البحــث عن ما يمكــن تخزينه من أغذية، وقصدوا لذلك متجــرا أو اثنين بقيا يعمــ ن فــي المدينة التي أغلقت باقي محالّهــا التجارية. كان هم الناس وقتها يتعلق بأمرين أساســيين: الحصول على المواد الغذائية من البقاالت، والحصول على النقود من الصرافات اآللية. كان أول صباح أرى فيه شوارع العاصمة خالية هكذا منذ أن وصلت إلى أوكرانيا، لقد نزل معظم أهل المدينة إلى المالجئ، أو التزموا البيوت. ها أنا أسمع صوت صافرات اإلنذار في سماء كييف، صافرات كان صوتها يتحشرج بعد أن صمت عقودا. لم يعد األمر " ســألتني زميلتنا المذيعة عن األوضاع في العاصمة فأجبت: مجرد شرارة لتوتر، لقد أصبحت الحرب قائمة، وها نحن نسمع صوت صافرات . " اإلنذار في قلب العاصمة األوكرانية كييف
30
كنا هناك ساعة الصفر أمين درغامي
لم أكن أتوقع، كما لم يكن يتوقع 2022 قبل العشــرين من فبراير/شــباط كثيرون، أن الرئيس الروســي فالديمير بوتين سيفعلها، ويشن حربا على الجارة أوكرانيا، لكنه فعلها. بحسب الرؤية الروسية فإن هذه الحرب ليست فقط من أجل الخالف مع حكومة كييف أو ضمان أمن الناطقين بالروسية في إقليم دونباس بجنوب شرق أوكرانيا، ولكنها في المقام األول جزء من أمن روسيا القومي، وتأتي في سياق صراع إقليمي ودولي أوسع. تزايدت خالل األشهر التي سبقت الحرب المؤشرات على احتمال نشوبها، في وقت أصرَّت فيه دول غربية، وعلى رأسها الواليات المتحدة األميركية، على توقع موعد اندالع شــرارتها ونطاق تمددها وتفاصيل عسكرية أخرى تدل على أن معلومات دقيقة كانت متوفرة لدى أجهزة االستخبارات الغربية، وتزامن مرارا اإلفصاح عن تلك المعلومات مع إطالق تصريحات سياسية ودبلوماسية أمريكية على وجه الخصوص، كانت تحذر وتنذر، وتؤكد بين حين وآخر وجود عقوبات جاهزة، ســتُفرض على روسيا بمجرد شنها لتلك الحرب، في حين ظل الساسة الروس إلى غاية األسابيع األخيرة قبل الحرب، يستبعدون نيتهم التدخل عسكريا في هذا البلد، الســوفيتي الســابق، ويضعون كل ما يُفصَح عنه في الغرب ضمن إطار التحرشات السياسية التي تمهّد لتمدّد حلف شمال األطلسي، وفرض مزيد من العقوبات على موسكو. بل إن النفي الروسي وصل في أحيان كثيرة إلى حد السخرية. ، أي قبل عشــرة أشهر من إطالق روسيا 2021 في أبريل/نيســان من عام ، شــهدت المناطق المتاخمة لحدود أوكرانيا " عملية عسكرية خاصة " ما تســميه تحركات مريبة، اتخذت شــكل مناورات وإعادة انتشار وتوزيع لقطعات وألوية من الجيش الروســي. أكدت موســكو حينها، على لسان أكثر من مسؤول رفيع، أنها تتخذ تلك اإلجراءات ردًّا على اقتراب حلف شمال األطلسي من حدودها الغربية تارة، ووضعتها تارة أخرى في إطار األعمال الدورية التي تقوم بها عادة بهدف الوقوف على جاهزية قواتها المسلحة في المنطقتين الجنوبية والغربية من
33
البالد. حينئــذ أوكلت لنــا إدارة التحرير بقناة الجزيرة مهمــة التوجه إلى مقاطعة روســتوف الروسية المحاذية إلقليم دونباس لرصد مظاهر التحركات العسكرية تلك، مع البقاء على أهبة االســتعداد للدخول إلى اإلقليم االنفصالي إذا شــهد تصعيدا عســكريا بين القوات الموالية لروســيا والجيش األوكراني، خاصة أن الهدنــة بين طرفــي الصراع، أي بين أوكرانيا واالنفصاليين، كانت هشــة للغاية . 2015 وانتهاكات وقف إطالق النار بين الجانبين لم تتوقف فعليا منذ شتاء عام كانت تلك المهمة الميدانية من أكثر التغطيات التي شعرت فيها بخيبة أمل منــذ اليوم األول؛ فإطار تحركاتنا قرب الحدود لرصد المظاهر العســكرية كان ضيقا بحكم اإلجراءات الروسية التي تمنع أي نشاط صحفي على مسافة عشرة كيلومتــرات من حدود البالد، مــن دون الحصول على موافقة أمنية، مما جعلنا نكتفي -على مدى عشرة أيام- بإجراء مداخالت مباشرة من مناطق بعيدة نسبيا عن الحدود، من دون أي رصد لتحركات تلك القوافل العسكرية التي جئنا من أجلها. ) وتحديدا في الشــهرين األخيرين، ازداد 2021 فــي نهايــة العام الماضي ( إصرار دول غربية وعلى رأســها الواليات المتحدة، على أن روســيا تعد العدة لغزو أوكرانيا عســكريا، مســتدلة بمعلومات اســتخبارية، نفتها روســيا جملة وتفصيال وشــككت في صحتها الســلطات األوكرانية نفســها. إصرار استوجب من مكتب الجزيرة في موســكو البقاء على أهبة االســتعداد؛ فكنا نواكب سيل التصريحات والتصريحات المضادة على مدار الساعة، بين إصرار غربي على أن روسيا ستغزو أوكرانيا، ونفي روسي وصل إلى حد االستهزاء بتلك التصريحات كما سبق القول. حينما حل العام الجديد لم يتغير شــيء وبقي الوضع على حاله؛ فروســيا تواصل مناوراتها العســكرية والدبلوماســية، والغرب يحذر من حرب وشيكة، وحدة التوتر السياسي بين موسكو والعواصم الغربية تتصاعد، وتجاهل المطالب الروســية، بتوقيع اتفاقية أمنية يلتزم بموجبها الناتو بعدم التوسع صوب الحدود الروسية الغربية، مستمر.
34
وفي ظل هذه األجواء المحتدمة عدت بذاكرتي سنوات إلى الوراء، وتحديدا ، عندما أُوكلت إلي مهمة تغطية الحراك االنفصالي في إقليم 2014 إلى ربيع عام دونباس منذ بداياته، مرورا باستفتاء االنفصال عن أوكرانيا، وصوال إلى أحداث مطار دونيتســك الدولي في الثامن والعشــرين من مايو/أيار من نفس الســنة، وهي األحداث التي تعد فعليًّا الشرارة األولى للصراع الذي نشهد امتداده اليوم في أوكرانيا. لقد عايشــت حينها كل تلك األحداث التي ســتغير فيما بعد وجه أوكرانيا، بل شكل العالقات بين روسيا والغرب. لــن أطيل في ســرد تفاصيل ربيع ذلك العام لزخمهــا وتفاصيلها الكثيرة، وســأكتفي بذكر استنتاجات احتفظت بها لنفسي طيلة السنوات الثماني للصراع، ساعدتني في فهم جذوره؛ وهي خلفيات وتفاصيل وظفتها في تغطيتي للحرب الراهنة، وساعدتني كثيرا على فهم ما يجري وتحليله، بما أسهم في إثراء التغطية المميزة لقناة الجزيرة. أيقنت أوال، أن روســيا لن تترك إقليــم دونباس يواجه مصيره عند اندالع حرب مباشــرة مع أوكرانيا، ثم أيقنت أن تنفيذ اتفاقيات مينســك، وخاصة منح كييــف دونباس وضعا قانونيا خاصا، ســيعني انهيارا حتميــا للدولة األوكرانية، وأدركت جيدا في النهاية أن حربا شــاملة أوسع من اإلقليم االنفصالي قادمة ال )، تلقيت اتصاال هاتفيا من زميل 2022 في األســبوع األول من هذا العام ( سنوات في إقليم دونباس، أخبرني فيه بأن إدارة رئيس 8 صحفي عملنا معا قبل االنفصاليين في دونيتســك مســتعدة لمنح قناة الجزيرة لقاء صحفيا مع الرئيس دينيس بوشــيلين. عرضت األمر علــى إدارة التخطيط فرحبت بالفكرة وتوجهنا إثر ذلك إلى دونيتسك بعد استصدار التصاريح واالعتمادات. وصلنا إلى دونيتسك ساعة واحدة قبل موعد اللقاء، ولم يكن هذا اللقاء هو األول الذي أجريه مع زعيم االنفصاليين؛ بل أجريت معه لقاءين سابقين عامي حينما كان رئيسا لبرلمان دونيتسك الشعبي. 2015 و 2014 أجرينــا اللقــاء في مطعم مالصق إلدارة رئاســة الجمهورية غير المعترف محالة؛ مهما اختلفت األسباب والتسميات. زيارة في توقيت مهم.. وبوادر حرب تلوح في األفق
35
بها دوليا، ولم تخرج أجوبة بوشــيلين عن إطار ما يُصرَّح به في موســكو مرارا؛ وذهبت معظمها في اتجاه اتهام كييف بخرق اتفاقيات مينسك، وتحضير القيادة العســكرية األوكرانية لغزو مناطق االنفصاليين، ومواصلة دول غربية عدة توريد أسلحة متطورة إلى أوكرانيا، وسعي من قبل سلطات اإلقليم االنفصالي لالنضمام إلى روسيا. بعد اللقاء، وفرت لنا ســلطات االنفصاليين كل التســهيالت إلنجاز تقارير عــن األوضاع األمنية قرب خط وقف إطــ ق النار، وعن األوضاع االقتصادية واإلنســانية في المدينة. مكثنا في دونيتســك أحد عشر يوما أنجزنا خاللها عددا من التقارير، وقد شــكلت لي هذه الزيارة فرصة إلنعاش ذاكرتي بالمنطقة التي لم أزرها منذ ســنوات، والوقوف على حجم التغيرات التي طرأت في مختلف مناحي الحياة فيها، منذ أن تمردت على كييف واختارت، مدعومة من روســيا، خيار االنفصال. يقترب من مليون 2014 كان عدد ســكان دونيتسك قبل اندالع األزمة عام من سكانها، % 80 نســمة، أما المدينة اليوم فهي شــبه فارغة بعد أن هجرها نحو بحســب تقديرات غير رســمية، ناهيك عن تغيرات أخرى طالت باقي مناحي الحيــاة، من البنية التحتية إلى االقتصاد، مــرورا بطباع الناس وعاداتهم اليومية. فالمدينة، على ســبيل المثال، تعيش نظاما ربما يكون أطول نظام حظر للتجوال ، وما زال 2014 في التاريخ، حيث فُرض في الثامن والعشرين من مايو/أيار من .) 2022 قائما حتى يومنا هذا ( قبل مغادرتنا دونيتســك، اتصلت بالمســؤولة اإلعالمية لدى االنفصاليين ألخبرها بأن مهمتنا انتهت وأننا نســتعد للمغادرة، وأبديت لها رغبتنا في العودة ســيد أمين، " إذا ما اســتدعت الضرورة ذلك، فكان ردها مفاجئا وغير منتظر: . هكذا وبكل بساطة ودون " ســتعودون إلى دونيتسك خالل أســبوعين أو ثالثة تفاصيل أخرى. عودة إلى دونباس قبيل الحرب عدنا من جديد إلى دونباس، في التاسع عشر من فبراير/شباط، تماما كما توقعت المسؤولة اإلعالمية لالنفصاليين، ومن الواضح أنها كانت تعلم أن أمرا
36
جلال قادم، رغم أني أستبعد أنها وباقي المسؤولين في اإلقليم االنفصالي كانوا يعلمون تفاصيل أكثر مما يُراد لهم أن يعلموه. وصلنا إلى دونيتســك يوما واحدا بعد إطالق الســلطات الموالية لروســيا عملية إجالء واسعة لسكان اإلقليم من النساء واألطفال إلى األراضي الروسية، كان ذلك يتم بالتوازي مع إعالن التعبئة العامة في صفوف جميع الذكور القادرين عاما. 55 و 18 على حمل السالح الذين تتراوح أعمارهم بين تزايدت بشكل متسارع اإلرهاصات والمؤشرات، على أن الحرب أصبحت قريبة. يوما واحدا بعد ذلك، اعترفت روســيا باســتقالل جمهوريتي دونيتســك ولوغانســك الشعبيتين عن أوكرانيا، كان يوما شاقا في مسار التغطية اإلخبارية، فُتح الهواء ساعات طويلة من أجل رصد كل صغيرة وكبيرة.. مداخالت مباشرة كل ساعة وأحيانا مرتين أو ثالثا خالل نفس النشرة. رصدنا االحتفاالت الشعبية بهذا الحدث الكبير، تجمهر عشرات من سكان دونيتســك وســط ســاحة لينين المقابلة لفندق إقامتنا، رافعين األعالم الروسية وأعالم الجمهورية االنفصالية.. لم تدم تلك االحتفاالت طويال مع حلول وقت بالتوقيت المحلي. 23 : 00 حظر التجوال في تمام الساعة عدت أنا والزميل المصور إلى الفندق لنأخذ قسطا من الراحة، ولنتدفأ قليال بعد وقوفنا ساعات طويلة في برودة كانت تقترب من عشر درجات تحت الصفر، وفي لحظة االسترخاء تلك فتحت هاتفي ألتفحص ما يروج في مواقع التواصل بخصوص هذا الحدث االستثنائي، ألُفاجأ بفيديو نشرته حسابات محسوبة على االنفصاليين وأخرى روســية، يُظهر ما قيل إنه قوافل عســكرية روسية اجتازت الحدود في طريقها إلى دونيتسك. بعد التنسيق مع مدير التخطيط والزمالء في قسم المراسلين، قررنا التوجه على وجه الســرعة إلــى مداخل المدينة لرصد دخول تلك القوافل العســكرية الروسية. استدعيت السائق الذي كان يستعد للخلود إلى النوم، ووصل المرافق المحلي بدوره، الذي بقي مصرا طوال الطريق، على أن الخبر زائف وال يمكن أن تدخل قوافل عسكرية روسية بتلك السرعة إلى دونباس؛ أي بساعات فقط بعد إعالن الرئيس الروسي فالديمير بوتين اعترافه باستقالل الجمهوريتين الشعبيتين،
37
حتى وإن صح الخبر، فإننا لن نجد شيئا في طريقنا، " كما كان يهمس أحيانا بأنه . " ألن تلك القوات قد تسلك طرقا فرعية بعيدا عن أعين الناس كانت الساعة تشير إلى الواحدة ليال، اقتربنا من الطريق الرئيسي الرابط بين مدينتي ماكييفكا ودونيتســك من جهة الشرق، استرقنا السمع وساعدنا في ذلك الصمت المطبق على المنطقة، فبدأت أصوات المزنجرات تقترب شــيئا فشــيئا بعد أن توقفنا في طريق فرعي مظلم يطل على دونيتســك، اقترح حينها الســائق المحلي أن نواصل المسير في نفس االتجاه، وتحديدا صوب طريق يطلق عليه ، وتعني اختصارا الطريق الدائري حول مدينة دونيتســك، وما إن تحركنا " دكاد " نحو كيلومترين حتى بدت لنا في األفق أضواء ســاطعة، واقتربت أكثر أصوات اآلليات العسكرية، فأدركنا أننا أمام قافلة روسية.. نعم أول قافلة عسكرية تدخل إقليم دونباس بعد اعتراف موسكو باستقالل دونيتسك. اقتربنا من مصدر تلك األضواء، لنجد ما يزيد على ثالثين دبابة من طراز ، كانت متوقفة على قارعة الطريق المظلم، وكأنها في طور التجمع قبل 90 – تي مواصلة المسير في اتجاه خط التماس الفاصل بين مناطق االنفصاليين والجيش األوكراني. توقفنا بســيارتنا غير بعيد من تجمع الدبابات، وشــرع المصور في التقاط الصور من داخل الســيارة، وخرجت أنا برفقة الســائق والمرافق للتحدث إلى العسكريين الذين نزل بعضهم لتدخين السجاير، وآخرون لشرب الشاي أو تبادل أطــراف الحديــث في انتظار تلقي األوامر بمواصلة الطريق. ما إن كشــف أمر وجودنا حتى اقترب عســكري ملثم، ال تحمل بزته العســكرية أي إشــارات أو أوشحة تبرز الفرقة التي ينتمي إليها أو رتبته العسكرية، وطلب منا بلطف مغادرة المكان فورا دون التقاط أي صورة. سألته دون تردد: هل أنت روسي؟ فرفض اإلجابة، وأصر على أن نغادر. غادرنــا المــكان وكان المصــور قد التقط عددا ال بأس بــه من اللقطات للدبابات وبعض الشــاحنات والجنود، وأدركت حينها أننا حصلنا على ما جئنا من أجله.. صور حصرية لدخول قافلة عسكرية روسية إلى دونباس بعد ساعات من االعتراف الروسي باستقالل اإلقليم. بدى األمر وكأن المهمة انتهت عند هذا
38
الحد، لكن شيئا بداخلي، كان يرشدني إلى أن مزيدا من اآلليات في طريقها إلى المنطقة فقررنا مواصلة المســير والبحث.. وبينا نحن نســتعد للمغادرة، طلبت فجأة من الســائق العودة إلى الطريق الرئيســي المؤدي إلى دونيتسك من اتجاه األراضي الروســية، الذي لم يكن بعيدا عن موقعنا، وتوجهنا إلى هناك، وما إن وصلنا حتى عثرنا على مزيد من القوات.. عشرات اآلليات، سيارات دفع رباعي عسكرية غير مرقمة، حامالت للجند وشاحنات عسكرية.. التقطت الصور بشكل سريع عن طريق الهاتف حتى أبادر بإرسالها فتبَث على الشاشة.. توالت القوافل واحــدة تلــو األخرى، وهو ما مكننا من الوقوف في مداخلة على الهواء ورصد كل تفاصيل تلك اللحظة التاريخية، بشكل حصري ومباشر. إعالن الحرب وتسارع األحداث فــور خلودي للنوم في وقت متأخر كعادتــي أثناء التغطيات الميدانية، رن هاتفي بعد نحو ساعتين فقط، وطلب مني أحد الزمالء من قسم المراسلين، أن أكون جاهزا أمام الكاميرا في أسرع وقت ممكن، ألن روسيا أعلنت بدء العملية العسكرية. فجر يوم الرابع والعشرين من فبراير/شباط، أعلن الرئيس الروسي فالديمير ، بعد يوم من طلب " عملية عســكرية خاصة في أوكرانيــا " بوتين بدء ما ســماه زعماء االنفصاليين في لوغانســك ودونيتسك دعما عسكريا من روسيا لمواجهة بحســب " اعتــداءات كييــف المتكررة، وقصف مناطقهم وقتل المدنيين العزل " قولهم. كان اليوم األول من الحرب زاخرا باألحداث في تغطية مفتوحة، ستتصدر الشاشة أشهرا بأخبارها في طليعة النشرات. كثفت روسيا من ضرباتها الصاروخية والجوية والمدفعية واجتياحها البري عبر محاور مختلفة داخل أوكرانيا، بشكل خاطف ومتزامن، فيما يطلق عليه في لغــة الحرب صدمة البدايــة، التي تهدف عادة إلى إعطاء زخم للهجوم، وإرباك الخصم وتشتيت خططه. بعد يوم فقط سيطر االنفصاليون على أولى البلدات التي كانت تحت سيطرة
39
أوكرانيا، غرب خط التماس الفاصل بين الجانبين، وتحديدا بلدة نيكواليفكا التي تقع إلى الجنوب من مدينة دونيتسك. دعانــا المركز اإلعالمي العســكري لالنفصاليين إلى زيارة البلدة، بشــرط توفرنا على ســيارة دفع رباعي بســبب صعوبة الطريق، وتضرر جســر يمر من المنطقة الرمادية التي كانت تفصل بين الجانبين. بعد محاوالت متكررة، فشلنا في العثور على سيارة دفع رباعي تقلنا برفقة االنفصاليين إلى بلدة نيكواليفكا، وتمكن فريق صحفي، روســي وآخر فرنسي، من توفير شرط وسيلة النقل، لكن رحلتهم تلك كادت تنتهي بمأساة بعد تعرض بلــدة نيكواليفكا لقصــف أوكراني بالمدفعية، لينجــو الصحفيون بأعجوبة من ذلك القصف، وهو الحادث الذي رسَّخ لدي اقتناعا بأن الرحالت التي ينظمها العســكريون االنفصاليون ليست آمنة، وأن معظمها محفوف بالمخاطر، فما كان يهمهم (إلى حين تحول اإلشــراف المباشــر على كل التحركات اإلعالمية إلى وزارة الدفاع الروسية) هو إبراز ما حققوه من نصر، دون مراعاة ألمن الصحفيين. بعد يومين من تلك الرحلة غير الموفقة، اقترح علينا االنفصاليون زيارة بلدة ضمن وفد ضم فريقا " بيشيفيك " أخرى حدودية سيطروا عليها، فتوجهنا إلى بلدة إعالميا روسيا وفريق الجزيرة، وهو أول فريق صحفي أجنبي يدخل المناطق التي اقتحمهــا االنفصاليون بدعم من القوات الروســية، ورصدنا خالل تلك الزيارة وضع الجبهة عن قرب، وحجم التعزيزات العســكرية، وهي كلها مظاهر كانت تشــير إلى تقدم ســريع، بل خاطف، للقوات الروسية في ذلك المحور القريب من مدينة ماريوبول جنوبي إقليم دونباس. ماريوبول.. عنوان بارز لمأساة الحرب اشــتدت المعارك في جنوب إقليم دونباس وشــماله، ولم تشــهد الجبهة الموازية لمدينة دونيتســك، عاصمة اإلقليم ومعقل االنفصاليين، أي تقدم يذكر، باستثناء قصف متقطع متبادل بين الجانبين. تقدم الروس واالنفصاليون في جبهات الجنوب، وبعد أقل من أســبوعين سيطروا على عشرات القرى وحاصروا مدينة فولنوفاخا، ثالثة المدن الكبرى في مقاطعة دونيتســك، فتوجهنا إلى محيط تلك المدينة لنقل أوضاع الجبهة القريبة
40
منها، وتحديدا إلى بلدة بوغاس التي سيطر عليها االنفصاليون، واتخذوها مركزا ميدانيا لعملياتهم باتجاه فولنوفاخا. بوغــاس بلــدة يقطنها مزارعون يونانيون هاجر أســ فهم إلى المنطقة في بدايات القرن العشــرين، وفوجئنا عند دخولنا إلى البلدة بأنه لم تصب مرافقَها أي طلقــة، فقــد كانت األوضاع في البلدة طبيعية رغم أنها تقع على خط النار، ورأينا بعض ســكانها، من أحفاد المزارعين اليونانيين، يتجمعون قرب كنيســة وســط البلدة وكأنهم على يقين من أنه لن يتجرأ أحد من الجانبين على إطالق قذيفة واحدة اتجاههم، وعلمنا فيما بعد أن البلدة سُــلِّمت دون قتال، لحرص الجانبين األوكراني واالنفصالي، على تفادي المس بالمكون اليوناني في المنطقة تجنبا إلشعال نعرات عرقية هما في غنى عنها. لقد عشنا في الطريق إلى بوغاس أصعب لحظات التغطية وأكثرها خطورة على اإلطالق، ففي الطريق إلى هذه البلدة عبرنا خط الجبهة مرتين، مرة عبر بلدة حدودية يطلق عليها دوكاتشايفسك، ومرة قرب بلدة نيكوالييفكا، وما إن اقتربنا من بلدة دوكاتشايفسك حتى تعرضت لقصف بصواريخ غراد دفعنا للتوقف إلى حين انتهاء القصف واتضاح المشهد، وبعد نحو ربع ساعة قرر المرافق العسكري أن نكمل الطريق، الذي يمر من وســط الجبهة، وما إن اجتزنا بلدة نيكواليفكا حتى شن الجيش األوكراني قصفا عنيفا آخر حال بيننا وبين قذائفه بضع عشرات من األمتار، مما دفعنا إلى التوقف والنزول من السيارات واالنبطاح على األرض دقائق قبل إكمال الطريق، وقد ألحق هذا القصف أضرارا بالطريق التي 10 نحو عبرناها، تبيناه مندهشين من حجمه وخطورته حين عودتنا من نفس الطريق بعد االنتهاء من تقرير أعددناه من بلدة بوغاس. لقد مهدت الســيطرة علــى فولنوفاخا الطريق أمــام االنفصاليين والقوات الروسية للتقدم نحو مدينة ماريوبول على بحر آزوف، فأحكمت القوات الروسية ألف نسمة، قبل التقدم ببطء 400 طوقا عسكريا حول المدينة التي يقطنها نحو القتحام أحيائها من الغرب والشــرق والشمال بشــكل متزامن. وبعد أسبوعين الذي يقع على مداخل " تسانطرالني " من القتال، تمكنت من الســيطرة على حي المدينة باتجاه مدينة زابوروجيا، وتلقينا دعوة للدخول إلى هذا الحي رغم أنه لم
41
Page 1 Page 2 Page 3 Page 4 Page 5 Page 6 Page 7 Page 8 Page 9 Page 10 Page 11 Page 12 Page 13 Page 14 Page 15 Page 16 Page 17 Page 18 Page 19 Page 20 Page 21 Page 22 Page 23 Page 24 Page 25 Page 26 Page 27 Page 28 Page 29 Page 30 Page 31 Page 32 Page 33 Page 34 Page 35 Page 36 Page 37 Page 38 Page 39 Page 40 Page 41 Page 42 Page 43 Page 44 Page 45 Page 46 Page 47 Page 48 Page 49 Page 50 Page 51 Page 52 Page 53 Page 54 Page 55 Page 56 Page 57 Page 58 Page 59 Page 60 Page 61 Page 62 Page 63 Page 64 Page 65 Page 66 Page 67 Page 68 Page 69 Page 70 Page 71 Page 72 Page 73 Page 74 Page 75 Page 76 Page 77 Page 78 Page 79 Page 80 Page 81 Page 82 Page 83 Page 84 Page 85 Page 86 Page 87 Page 88 Page 89 Page 90 Page 91 Page 92 Page 93 Page 94 Page 95 Page 96 Page 97 Page 98 Page 99 Page 100 Page 101 Page 102 Page 103 Page 104 Page 105 Page 106 Page 107 Page 108 Page 109 Page 110 Page 111 Page 112 Page 113 Page 114 Page 115 Page 116 Page 117 Page 118 Page 119 Page 120 Page 121 Page 122 Page 123 Page 124 Page 125 Page 126 Page 127 Page 128 Page 129 Page 130 Page 131 Page 132 Page 133 Page 134 Page 135 Page 136 Page 137 Page 138 Page 139 Page 140Made with FlippingBook Online newsletter