العدد 5 - فبراير/شباط 2020

أصدر مركز الجزيرة للدراسات العدد الخامس من مجلة "لباب" التي تعنى بالدراسات الاستراتيجية والإعلامية. وقد سعى هذا العدد الجديد إلى تكريس هويته الإعلامية إلى جانب الاستراتيجية، من خلال ثلاثة بحوث مهمة تتناول قضايا جوهرية في الدرس الإعلامي المعاصر.

٢٠٢٠ - فبراير ٥ العدد

3 |

المحتويات

5 ................................................................................................................................. افتتاحية العدد أولويات العدالة الانتقالية: قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟ 9 ................................................................................................................................ محمد الشرقاوي أزمة الديمقراطية الليبرالية: الأبعاد القيمية وآفاق الإصلاح السياسي 57.................................................................................................................................. امحمد جبرون الخوارزميات وهندسة تفضيلات مستخدمي الإعلام الاجتماعي 93 .................................................................................................................... فاطمة الزهراء السيد المغرب: استراتيجية الانفتاح الاقتصاديعلىإفريقيا وتحدياتها المستقبلية 141 ......................................................................................................................... خالد عثمان الفيل شبكات التواصل الاجتماعي والرقابةعلىالمحتوى: فيسبوك وإشكالية الجمع بين التواصل الإعلامي وحرية التعبير 177 ..................................................................................................................... محمد الأمين موسى أزمة الصحافة الورقيةفي لبنان: أطروحة النهاية وإشكالية الاستمرارية 221................................................................................................................................... محمد الراجي قراءة في كتاب ديكاتورية الهويات 285 ............................................................................................................................ عبد السلام رزاق فعاليات الجزيرة للدراسات يبحث أزمتي سد النهضة والأونروا وتحديات الموجة الثانية من الربيع العربي 307 ..................................................................................................................... محمد عبد العاطي

5 |

افتتاحية العدد

باب” وجهد البحث الإعلامي ُ “ل

يســعى العــدد الخامــس مــن (لبــاب) إلــى تكريــس هويتــه الإعلاميــة إلــى جانــب الاسـتراتيجية، م ـن خـ ل ثلاث ـة بحـوث مهم ـة تتن ـاول قضاي ـا جوهري ـة ف ـي ال ـدرس الإعلامــي المعاصــر. الدراســة الأولــى التــي كانــت موضــوع غــ ف هــذا العــدد جــاءت تحــت عنــوان: “الخوارزميـات وهندسـة تفضيـ ت مسـتخدمي الإعـ م الاجتماعـي”، وهـذا الموضـوع مـن الدراسـات الإعلاميـة الجديـدة والرائـدة، التـي تمـزج التقنيـة الاتصاليـة بدراسـات جمهـور وسـائل الإعـ م الاجتماعـي، وهـو أساسـي للبحـث الاتصال ـي، لاسـيما مـع الانتشـار الضخـم للتقنيـة، والأنمـاط المسـتحدثة من القيـم والمظاهـر والعـادات الاتصالية. تتنــاول هــذه الدراســة “هندســة” جمهــور وســائل الإعــ م الاجتماعــي مــن خــ ل التعـرف علـى تفضيـ ت هـذا الجمهـور، بينمـا تتولـى الـ”خوارزميـات” تحويـل عـادات الاسـتخدام إلـى أنمـاط سـلوكية للجمهـور. تسـمح المعطيـات التـي توفرهـا هـذه الآليـات التقنيـة، باكتشـاف ميـول الأفـراد، ناهيـك عـن الجمهـور العـام، وتمنـح هـذه المعلومـات ـا فريـدة لمنشـئي الرسـائل الاتصاليـة، لتوجيـه الـرأي العـام، وتوسـيع قاعـدة التعرض ً فرص

| 6

لوسـائل الاتصـال، وضمـان أقصـى ق ـدر مـن النجـاح لحمـ ت الدعاي ـة السياسـية أو التجاريـة. ـا آخـر بعنـوان: “شـبكات التواصـل الاجتماعـي والرقابـة على ّ ً ـا إعلامي ً ـن العـدد بحث َّ تضم المحتـوى”، وهـو بحـث فـي جدليـة العلاقـة بـن حريـة التعبيـر التـي توفرهـا بيئـة الإعـ م الجديـد، وبـن كل مـن الفـرص التـي توفرهـا هـذه البيئـة لغيـاب التقاليـد المهنيـة فـي الإنتـاج المعرفـي، وكذلـك إرادات الـدول فـي وضـع ضوابـط رقابيـة وعقوبـات جنائيـة عل ـى النش ـر عب ـر الإنترن ـت بوس ـائله ومنصات ـه المختلف ـة ومنه ـا الوس ـائط الاجتماعي ـة. وق ـد اخت ـار الباح ـث موق ـع الفي ـس ب ـوك وم ـا فرضـه م ـن ضواب ـط رقابي ـة عل ـى م ـا ينشـره مسـتخدموه كدراسـة حالـة لإغنـاء البحـث والإجابـة علـى مشـكلته. ـا، هـو مـن بـن أبـرز معطيـات ونتائـج ّ ً ـا إعلامي ً البحـث الإعلامـي الثالـث تنـاول موضوع الانتقـالات التكنولوجيـة فـي العالـم المعاصـر، ويتمثـل بأزمـة الصحافـة الورقيـة، وحقيقة اقترابهــا مــن نهايــة عصرهــا بعدمــا باتــت تقاليــد قــراءة الصحــف تنتقــل بالتدريــج وبشـكل متسـارع إل ـى العال ـم الرقمـي، وكذل ـك م ـع تحـول كثي ـر م ـن الصحـف نحـو م ـن الورق ـي كبدي ـل منطق ـي يع ـالج ضع ـف الطل ـب وتراجـع ً الإصـدار الرقم ـي ب ـد الإعلان ـات، وتعاظ ـم الأزم ـات الاقتصادي ـة للصحـف. تن ـاول الباحـث لبن ـان كحال ـة عربيـة لهـذه الظاهـرة، لاسـيما أن لبنـان هـو مـن بـن الـدول العربيـة الرائـدة فـي ظهـور الصحاف ـة وظ ـل لس ـنوات طويل ـة المرك ـز الأساس ـي للعم ـل الصحف ـي ب ـن كل ال ـدول العربي ـة وأكثره ـا حري ـة وإج ـادة لتقالي ـد المهن ـة وحرفيته ـا، وه ـو يش ـهد الي ـوم توق ـف صحـف عريقـة فيهـا عـن الإصـدار الورقـي. ـا دراسـات مهمـة أخـرى، منهـا: “أولويـات العدالـة الانتقاليـة: ً فـي العـدد الخامـس أيض

7 |

افتتاحية العدد

قـوة القانـون أم الأمـن المجتمعـي؟”، وهـو بحـث معمـق فـي مفهـوم العدالـة الانتقاليـة، ومناقشـة التسـاؤل حـول أسـبقية العدالـة وتطبيـق العقـاب علـى مجرمـي الحـرب وسـائر الجنـاة خـ ل فتـرة النـزاع أم أولويـة التعامـل مـع الآثـار النفسـية لمـا حـدث مـن أعمـال العنــف، ومطالــب الانتقــام، وطبيعــة الذاكــرة الجماعيــة للضحايــا، ومحاولــة ترميــم حمــة الاجتماعيــة وبنــاء الســ م. وقــد درس الباحــث تجــارب ثــ ث دول، هــي: ُّ الل تشـيلي، وجن ـوب إفريقي ـا، والمغـرب. دراسـة أخـرى تناق ـش “أزم ـة الديمقراطي ـة الليبرالي ـة” م ـن زاوي ـة الخل ـل ال ـذي أصابه ـا فـي مركزهـا الأساسـي فـي الغـرب؛ حيـث بـدأت الأفـكار الشـعبوية بالبـروز، بـل الفـوز بالس ـلطة ف ـي بل ـدان مهم ـة، وعريق ـة الارتب ـاط به ـذا المنه ـج الاجتماع ـي والسياس ـي، مثـل: الولايـات المتحـدة وبريطانيـا. وقـد بنـى الباحـث فرضيتـه علـى اعتبـار أن الأزمـة العميقـة التـي تعانـي منهـا التجربـة الديمقراطيـة بمختلـف أوجههـا فـي الغـرب وخارجـه، يـل، ومؤسسـات. ِ ث ْ َ هـي أزمـة قيميـة فـي العمـق، وليسـت أزمـة والدراسـة الأخيـرة كانـت فـي الاقتصـاد السياسـي، وتتركـز علـى اسـتراتيجية الانفتـاح الاقتصــادي المغربــي علــى إفريقيــا وتحدياتهــا المســتقبلية. هدفــت الدراســة، حســب الباحـث، إل ـى إب ـراز تجرب ـة المغـرب فـي الانفت ـاح الاقتصـادي عل ـى إفريقي ـا والعوامـل الداخليـة والإقليميـة التـي أسـهمت فـي تحقيـق هـذا الانفتـاح، بالإضافـة إلـى مناقشـة أثـره علـى التحديـات الهيكليـة التـي يعانـي منهـا الاقتصـاد المغربـي، ورصـد التحديـات المسـتقبلية لهـذا الانفت ـاح. ل ـة بالق ـراءة النقدي ـة ف ـي كت ـاب، وتناول ـت ف ـي َّ ـا الأب ـواب الثابت ـة ممث ً وف ـي الع ـدد أيض عـن زاويـة الفعاليـات التـي ً ـا بعنـوان: “ديكتاتوريـة الهويـات”، فضـ ً هـذا العـدد كتاب

| 8

ا للفعاليــات والأنشــطة البحثيــة والعلميــة التــي أقامهــا مركــز الجزيــرة ً تناولــت إيجــاز للدراس ـات خـ ل الفت ـرة الماضي ـة.

هيئة التحرير

9 |

أولويات العدالة الانتقالية : قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟

* محمد الشرقاوي

مقدمة تفيـد العدالـة الانتقاليـة فـي أبسـط تعريفاتهـا، كمـا قـال الأمـن العـام السـابق لـأمم المتحـدة، كوفـي عنـان، أنهـا “كامـل نطـاق العمليـات والآليـات المرتبطـة بالمحـاولات الت ـي يبذله ـا المجتم ـع لتفه ـم وتجـاوز ترك ـة الماضـي الواسـعة النط ـاق بغي ـة كفالت ـه ). وتتفـق التعريفـات الأخـرى علـى 1(” للمسـاءلة وإحقـاق العـدل وتحقيـق المصالحـة أن العدالـة الانتقالي ـة تنطـوي علـى “الطـرق التـي تعـالج بهـا البلـدان الخارجـة مـن فتـرات الصـراع والقمـع مـا عانتـه مـن انتهـاكات متعـددة وواسـعة النطـاق لحقـوق .)2(” ـن نظـام العدالـة العـادي مـن التعامـل المناسـب معهـا َّ الإنسـان، والتـي لـم يتمك بيـد أن أوجـه تطبيـق العدالـة الانتقاليـة تتبايـن حسـب سـياقاتها ودينامياتهـا السياسـية ـا الإجرائيـة بـن تجـارب الـدول التـي اختـارت هـذا المسـعى لتجاوز ً والقانونيـة وأحيان أحق ـاد الن ـزاع وتحقي ـق الأم ـن المجتمع ـي. وتكمـن الإشـكالية الرئيسـية ف ـي الخي ـار Re�( ” )، أو “تصالحيـة Punitive ” ة � ة “عقابيـ � عي لعدالـ � ب بيـن السـ � تراتيجي الصعـ � الاسـ (

* د. محمد الشرقاوي، باحث أول بمركز الجزيرة للدراسات.

| 10

) تحـت شـعار تجـاوز الصـراع وتراكـم العـداء Transitional( ” )، أو “انتقاليـة storative وترمي ـم العلاقـة ب ـن الدول ـة والمجتمـع. وتنقسـم الآراء ب ـن أحقي ـة تطبي ـق القان ـون ج فـي الحسـابات ُّ ـا وعقـاب الجن ـاة وإنصـاف الضحاي ـا وأفضلي ـة الت ـدر ً ـا وروح ّ ً نص القانونيــة والتريــث فــي تحقيــق مصالحــة وطنيــة لا تعتــد بإنــزال العقوبــات والــزج بمرتكبـي انتهـاكات حقـوق الإنسـان فـي السـجون بقـدر مـا تحـرص علـى التوصـل إلـى تعايـش مجتمعـي وطـي صفحـة الماضـي الأليـم. مـن هـذا المنطلـق، تركـز هـذه الدراسـة علـى السـجال المفتـوح بـن خبـراء تسـوية النزاعــات والمؤسســات التــي تســعى لبنــاء الســ م حــول تحديــد الأولويــة: هــل هـي أسـبقية العدال ـة وتطبي ـق العقـاب عل ـى مجرمـي الحـرب وسـائر الجن ـاة خـ ل فتـرة النـزاع أم أولويـة التعامـل مـع الآثـار النفسـية لمـا حـدث مـن أعمـال العنـف، حمـة ُّ ومطال ـب الانتقـام، وطبيعـة الذاكـرة الجماعي ـة للضحاي ـا، ومحاولـة ترمي ـم الل الاجتماعيـة وبنـاء السـ م. وتهتـم بتحليـل جدليـة هـذه الثنائيـة ليـس علـى المسـتوى ـا تقيي ـم الحصيل ـة العملي ـة ف ـي مح ـاولات ً النظ ـري الأكاديم ـي فحس ـب، ب ـل وأيض ـا ً تحقيـق العدالـة الانتقاليـة فـي مراحـل زمنيـة متباينـة وفـي جغرافيـات متباعـدة. وتبع لذلـك، تسـتهدف تقييـم حصيلـة التعامـل مـع جدليـة: العدالـة أم الأمـن المجتمعـي؟ Rettig( ـرف بتقريـر لجنـة ريتيـغ ُ ضمـن لجـان ومشـاريع المصالحـة فـي تشـيلي أو مـا ع )، وهيئــة 1996( )، ولجنــة الحقيقــة والمصالحــة فــي جنــوب إفريقيــا Report) (1991 )، وكيـف حاولـت التوفيـق بـن مقتضيـات 2004( الإنصـاف والمصالحـة فـي المغـرب تطبيـق القانـون والعقـاب واعتبـارات السـ م المجتمعـي. عـزى سـبب اختيـار هـذه التجـارب الثـ ث إلـى قربهـا الزمنـي مـن هـذه المرحلـة، ُ وي

11 |

أولويات العدالة الانتقالية: قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟

وقـد تمـت بـن نهايـة قـرن وبدايـة آخـر بـن أقصـى جنـوب وأقصـى شـمال القـارة لـم تكـن ْ مـن أهـم، إن ُّ الإفريقيـة ووسـط القـارة الأميركيـة اللاتينيـة. كمـا أنهـا تعـد الأهـم، بـن تجـارب العدالـة الانتقاليـة فـي العقـود الثلاثـة الماضيـة لاسـتخراج بعض ـر الت ـي يمك ـن أن تفي ـد ف ـي بن ـاء الس ـ م المأم ـول ف ـي س ـوريا بع ـد َ ب ِ ال ـدروس والع سـنوات الحـرب الأهليـة، وتشـريد نصـف الشـعب السـوري، ومقتـل قرابـة نصـف . ويتمسـك بعـض 2011 مليـون مـن المدنيـن منـذ أحـداث درعـا، فـي مـارس/آذار السـوريي بالق ـول: إن ـه “ينبغ ـي التذكي ـر ب ـأن جريم ـة بحجـم الجريم ـة ف ـي سـوريا لا يمكـن مقاربتهـا بوجـه واحـد مـن أوجـه العدالـة، بـل لابـد مـن مزيـج مـن المقاربـات .)3(” للمسـاعدة علـى تخطـي اللحظـة، والبنـاء علـى أسـاس قانونـي سـليم ـا ف ـي ً غي ـر أن مس ـارات العدال ـة المنش ـودة، لي ـس ف ـي س ـوريا فحس ـب، ب ـل وأيض اليمــن ومصــر وليبيــا وتونــس والجزائــر والمغــرب وبقيــة الــدول العربيــة، تنطــوي ي فـي التعامـل مـع التركـة النفسـية، وآثـار ِّ علـى ضـرورة التفكيـر والتخطيـط المتـرو ــا، لــدى ضحايــا البطــش والاســتبداد، أو مــا يتعــارف ً التعذيــب الجســدية أحيان 1961-( المغارب ـة عل ـى تس ـميته “سـنوات الرصـاص” خـ ل حكـم الحس ـن الثان ـي ). بيـد أن تفعيـل آليـات تلـك العدالـة مـن خـ ل عمليـات كشـف الحقيقـة أو 1999 إجـراءات العدالـة الجنائيـة يمكـن أن يهـدد عمليـات بنـاء السـ م فـي دول لا يـزال .)4( مرتكب ـو أعم ـال العن ـف فيه ـا يتمتع ـون بق ـوة النق ـض لا غرابـة أن تعـود بنـا إرهاصـات السـعي للمصالحـة، أو بالأحـرى الحاجـة لمصالحـات عربيــة داخــل المجتمــع الواحــد، إلــى المربــع الأول مــن أجــل تصميــم النمــوذج والآليـات المناسـبة لتعقيـدات الحـروب الأهليـة والصراعـات الداخليـة علـى امتـداد

| 12

الجغرافي ـا م ـن المغ ـرب حت ـى الع ـراق. وأصبح ـت ج ـل الدراس ـات واس ـتراتيجيات الهيئـات الدوليـة التـي تتعامـل مـع الصراعـات تدافـع عـن ضـرورة تطبيـق العدالـة الانتقاليـة بتفريعـات مختلفـة كإحـدى أهـم ركائـز بنـاء السـ م فـي المجتمعـات التـي مزقتهـا الحـرب. وتسـتمد زخمهـا النظـري مـن الفكـرة المفصليـة التـي بلورهـا أسـتاذ ) فـي كتاب ـه “تغيي ـر المنظـار: تركي ـز Howard Zehr( دراسـات الإجـرام هـاورد زيهـر .)5(” جديـد علـى الجريمـة والعدالـة ـا بدراسـة الرؤيـة الفلسـفية ضمـن عمـل المحكمـة الجنائيـة الدوليـة ً تهتـم الدراسـة أيض فـي معاقب ـة الجن ـاة بمعـزل عـن متطلب ـات بن ـاء السـ م، وإل ـى أي حـد ت ـدور هـذه الفلســفة فــي فلــك حقــل الدراســات الإجراميــة التــي ترعرعــت فيهــا منظومــة العدالـة الانتقاليـة وليـس فـي حقـل فـض النزاعـات وبنـاء السـ م الـذي لا يتحمـس لعدالـة انتقاليـة لـن تخـدم بالضـرورة الهـدف الرئيسـي المتمثـل فـي الأمـن المجتمعـي. ويتحـرك هـذا التحليـل علـى مسـتويي: أولهمـا: اعتمـاد عنصـري المنطـق القانونـي ومنطـق الأمـن المجتمعـي كنقـاط تقاطـع فـي تحليـل مشـاريع المصالحـة الوطنيـة فـي ال ـدول الث ـ ث. وثانيهم ـا: ضـرب مقارن ـة ب ـن التأطي ـر النظ ـري الفلس ـفي لفك ـرة ــا ّ ً ــا مــع مــا كشــفته عملي ً تأســيس المحكمــة الجنائيــة الدوليــة قبــل ســتة عشــر عام اســتراتيجيات تغييــر الانطباعــات والســرديات والذاكــرة الجماعيــة بــن الضحايــا والجنـاة فـي حقبـة مـا بعـد وقـف إطـ ق النـار. . مرحلة التنظير للعدالة الانتقالية 1 ل العدال ـة الانتقالي ـة إحـدى أذرع حرك ـة الدف ـاع عـن حق ـوق الإنسـان الت ـي ِّ تشـك قامــت عقــب الحــرب العالميــة الثانيــة وفــق التصــور الليبرالــي الغربــي، واختزلهــا

13 |

أولويات العدالة الانتقالية: قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟

Louis Hen� ، ن � س هنكـ � ي، لويـ � ون الدولـ � ة للقانـ � ة الأميركيـ � ابق للجمعيـ � س السـ � الرئيـ ( ). وبالتالــي، يصبــح أي انتقــاد 6(” ) فــي عبــارة “عصــر الحقــوق kin) (1917-2010 أو تقييـم لمشـاريع العدالـة الانتقاليـة بمنزلـة نقـد للحركـة الدوليـة للحريـات العامـة. بيــد أن تحقيقهــا فــي أرض الواقــع لا يتبــع المســار القضائــي أو الإجرائــي الصــارم علـى غـرار الجرائـم العاديـة، بـل يعتمـد علـى “نسـق مختلـف مسـتوحى مـن فلسـفة ـا ً متمي ـزة بوضـوح”، و”لا يمكـن الحكـم عل ـى أنسـاق مختلفـة بنفـس المعايي ـر، تمام .)7(” كمـا لا يمكـن لعـب كـرة القـدم الأميركي ـة وفـق قواعـد كـرة القـدم الدولي ـة ـا بالسـجالات الفلسـفية التـي شـهدتها سـبعينات ً ز الزخـم النظـري للعدالـة أيض َّ تعـز القـرن الماضـي حـول الجـدوى مـن الاسـتمرار في معاقبـة المجرمـن لأنهم “يسـتحقون ذل ـك”، وه ـي فك ـرة كان ـت تحتضـر ف ـي أدبي ـات عل ـم الإج ـرام. وواصـل بع ـض فقهـاء القانـون والفلاسـفة النقـاش حـول نظريـات الانتقـام، وإن لـم يكـن لديهـم ). ويلاحـظ الباحثـان فـي علـم 8( وقتهـا سـوى تأثيـر محـدود فـي السياسـات العامـة )، أن Philip Pettit( ) وفيليــب بوتيــت John Braithwaite( الإجــرام، جــون بريثويــت آن ـذاك مـن “الإدراك أن النزعـة المنفعي ـة َّ التوجـه نحـو المنحـى الانتقامـي ل ـم يتغ ـذ ـا م ـن التوثي ـق ً والعدال ـة الوقائي ـة فشـلت ف ـي الوف ـاء بوعوده ـا فحسـب، ب ـل وأيض .)9(” المتنامـي للمظالـم التـي تحـدث باسـم العدالـة الوقائيـة مـن الإجـرام اعتمـاد برامـج طموحـة تنبنـي علـى مجموعـة َّ العقـود الثلاثـة الماضيـة، تم ِّ علـى مـر مبـادئ يعتبرهـا هـاورد زيهـر “أسـئلة توجيهيـة أو استرشـادية” ضمـن رؤيتـه المتشـبعة بفلســفة العقــاب علــى الأعمــال الإجراميــة وسمــو القانــون علــى أي اعتبــار آخــر. ا لمـا سمـاه “نمـوذج العدالـة الحالـي، علـى الأقـل فـي الغـرب، ً فكانـت نظريتـه امتـداد

| 14

الـذي ينشـغل بتحديـد هويـة الشـخص الجانـي، وتحديـد مـن يسـتحق اللـوم، وتحميله ــا نــواة إطــار قانونــي ّ ً ). وأصبحــت نظريتــه تدريجي 10(” العقــاب أو الألــم المناســب دولـي أوسـع للتعامـل مـع مـا حـدث مـن خطايـا بغيـة تجـاوز مرحلـة الصـراع وبنـاء السـ م. تظــل هــذه العدالــة فــي بعدهــا القانونــي متوازيــة مــع مســاعي ترميــم المجتمــع وعلاقت ـه مـع الدول ـة مـن خـ ل ب ـدء الحـوار والمصالحـة الوطني ـة، وتأسـيس لجـان الحقيقـة والإنصـاف والكرامـة، وحفـظ الذاكـرة، وجبـر الضـرر، ومنـح تعويضـات ماديــة واعتبــارات معنويــة للضحايــا وأســرهم، وإصــ ح مؤسســات الأجهــزة ـا تـداول مفاهيـم فرعيـة جديـدة، مثـل: الحـق فـي ّ ً الأمنيـة والجيـش. فاتسـع تدريجي Reconcilia�( )، والمصالحــة Reparations( )، وجبــر الضــرر Restitution ض � التعويـ ( Restorative( )، والعدالـة التصالحيـة Remembrance( )، والحفـاظ علـى الذاكـرة tion ). وهــذه مفاهيــم تنبنــي فــي الأصــل Rectification( )، وتصحيــح الخطايــا Justice علـى تصـور أوروبـي مفـاده أن الجريمـة انتهـاك للفـراد والعلاقـات الشـخصية، وأن .)11( الانته ـاكات تخل ـق التزام ـات، وأن الالت ـزام المرك ـزي ه ـو تصحي ـح الأخط ـاء ـا مـع فلسـفة الأديـان وأنثروبولوجيـا الثقافـة لـدى أغلـب ً تتسـق العدالـة الانتقاليـة أيض المجتمعـات فـي الغـرب والشـرق مـن خـ ل الاعتـداد بالوجـود الفردي/المجتمعـي ـا، والالتف ـاف ح ـول الج ـدوى م ـن الصـواب ً المش ـترك والمتراب ـط ب ـن بعضـه بعض ـى شـتى الأديـان َّ ) حتـى فـي حـالات الصـراع والقتـل. وتتبن all-rightness( الشـامل مهـا ِّ والثقافـات بعـض المرونـة فـي احتـواء مضاعفـات الصـراع باعتبارهـا أخطـاء يقو ا نحـو اعتـذار الجانـي ومغفـرة الضحيـة. وهـذا جـزء لا يتجـزأ مـن ً المجتمـع ومسـلك

15 |

أولويات العدالة الانتقالية: قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟

مفهـوم “شـالوم” كنايـة عـن فكـرة الصـواب فـي تدبيـر العلاقـات الاجتماعيـة فـي ) لدى شـعوب Whakappa( ” الديانـة اليهوديـة. نفـس الفرضيـة تتبناهـا ثقافـة “واكابـا ـا ثقافـة ً )، وأيض Cook( ) وجـزر كـوك 12( ) الأصليـة فـي نيوزيلانـدا Maori( المـاوري ) لـدى شـعوب Hozho( )، وثقافـة هـوزو 13( ) فـي جن ـوب إفريقي ـا Ubuntu( أوبونت ـو .)14( ) الأصليـة فـي أميـركا الشـمالية Navajo( نافاهـو يعتب ـر مفه ـوم العدال ـة وإجراءاته ـا العملي ـة عناصـر رئيس ـية ف ـي الثقاف ـة الإس ـ مية التـي تتمسـك بهـا بمـوازاة الحـث علـى الصلـح أو المصالحـة وترميـم العلاقـات بـن أفـراد المجتمـع. وثمـة فـي القـرآن الكـريم أكثـر مـن إشـارة إلـى هـذه الصلـة القويـة ” (ســورة ِ ــاس ّ َ الن َ ْ ــن َ ب ٍ ح َ ــ ْ ص ِ إ ْ و َ أ ٍ وف ُ ــر ْ ع َ م ْ و َ أ ٍ ــة َ ق َ د َ ص ِ ب َ ــر َ م َ أ ْ ــن َ م ّ َ لا ِ كقولــه تعالــى: “إ ” (سـورة ْ ـم ُ ك ْ ي َ و َ خ َ أ َ ْ ـن َ ـوا ب ُ ح ِ ل ْ ص َ أ َ ف ٌ ة َ ـو ْ خ ِ إ َ ـون ُ ن ِ م ْ ؤ ُ ْ ـا ا َ ّ َ ِ ـا “إ ً )، وأيض 114 النسـاء: الآيـة ـا َ ه ُ ل ْ ه َ أ َ و ٍ ـم ْ ل ُ ظ ِ ى ب َ ـر ُ ق ْ ال َ ـك ِ ل ْ ه ُ ي ِ ل َ ـك ّ ُ ب َ ر َ ان َ ـا ك َ م َ )، والآيـة الكريمـة “و 10 الحجـرات: الآيـة ). ويشــدد الدكتــور عــ ء الديــن زعتــري، 117 ” (ســورة هــود: الآيــة َ ــون ُ ح ِ ل ْ ص ُ م مديـر الإفتـاء العـام والتدريـس الدينـي فـي وزارة الأوقـاف السـورية، علـى القـول: إن المصالحـة “فع ـل تش ـاركي، ه ـي مش ـروع حضـاري إنس ـاني رف ـع ل ـواءه الأنبي ـاء صلحـون ويسـير عل ـى دربهـم السـادة العلمـاء ُ ون، رفـع رايت ـه الحكمـاء والم َ والمرسـل ـا َ م ِ ـد ْ ع َ ب ْ ـن ِ م ّ َ ِ إ َ ـاب َ ت ِ ك ْ ـوا ال ُ وت ُ أ َ ي ـن ِ ذ ّ َ ق ال ّ َ ـر َ ف َ ـا ت َ م َ المخلصـون... هـل نحـن نعمـل “و ”؟ هـل العلـم هـو طريـق للحضـارة والرقـي أم هـو وسـيلة ْ ـم ُ ه َ ن ْ ي َ ـا ب ً ي ْ غ َ ب ُ ـم ْ ل ِ ع ْ ال ُ ـم ُ ه َ اء َ ج للدمـار والهـ ك؟ هـل المعرفـة بينـي وبـن الآخـر هـي طريـق للمصالحـة والإصـ ح عـد ثـم الصـدام ثـم ُ “لتعارفـوا” أم هـي وسـيلة للانكمـاش أو التعصـب أو النفـور أو الب .)15(”؟ الحـرب والقت ـال

| 16

ـاءة وحقيقيـة تظـل رهينـة بمـدى اسـتعداد َّ بيـد أن فرضيـات التوصـل إلـى مصالحـة بن طــرف بالإقــرار بالذنــب أو الجــرم، وقــدرة الطــرف الآخــر علــى قبــول الاعتــذار والعفــو. فــإذا أزلنــا أســباب الخصومــة “ننطلــق إلــى المصالحــة الحقيقيــة والدائمــة بن ـا المس ـافة ب ـن المتباعدي ـن، َّ ن ـا عل ـى وج ـه م ـن الوج ـوه، قر ْ والمس ـتمرة، إذا تراضي ا مـن المصالحـة. إذا وصلنا ً ا كبيـر ً ـن، حققنـا جـزء َ ربطنـا جسـور المـودة بـن المتخاصم فـي مصالحتنـا إلـى التسـامح وسـاد الأمـان وسـاد الاطمئنـان والسـ م والخيـر، فإنـا علـى بعـض الوجوه، ٍ نجحنـا فـي المصالحـة. هـذه المقومـات بإزالـة الأسـباب، بتـراض .)16(” ً بتسـامح ابتـداء ثـم عفـو انتهـاء . عند تقاطع الإنسانية والقيم الكونية 2 م ـع مطل ـع الق ـرن الحـادي والعش ـرين، ي ـزداد الاهتم ـام بالترك ـة النفس ـية والجس ـدية للحــروب ومضاعفــات العنــف وانتهــاكات حقــوق الإنســان ســواء لــدى هيئــات ـى الدف ـاع ع ـن كرام ـة الف ـرد والحري ـات العام ـة، أو ف ـي َّ المجتم ـع المدن ـي الت ـي تتول المجـال السياسـي، أو الحقـل الأكاديمـي. ويسـتمر التفاعـل بـن الباحثـن بعـد ظهـور )The Age of Apology( )17(” عـدة مؤلفـات فـي هـذا الصـدد مثـل “عصـر الاعتـذار The Politics( )18(” )، و”سياسـة اللوم والتكفيـر Roy Brooks) (1999( لـروي بروكـس ) وبالومـا أغي ـ ر Barahona de Brito( ) لبراهونـا ديبريت ـو of Blame and Atonement )، و”سياس ـة Gonzalez Enriquez) (2001( ) وغونزالي ـس إينريك ـي Paloma Aguilar( .)Jeffery Olick ) (2013( ) لجيفــري أوليــك Politics of Regret( )19(” الأســف ـا بشـكل غيـر مباشـر فـي حشـد التأييـد بـن أغلب ً أسـهمت أفـكار هـاورد زيهـر أيض الـدول علـى الجـدوى مـن تأسـيس المحكمـة الجنائيـة الدوليـة بمقتضـى اتفاقيـة رومـا

17 |

أولويات العدالة الانتقالية: قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟

دولـة 123 بعضويـة 2002 التـي دخلـت حيـز التنفيـذ فـي الأول مـن يوليو/تمـوز عـام مـن أجـل معاقب ـة الأشـخاص المدان ـن بتهـم ارت ـكاب جرائ ـم التطهي ـر العرقـي، أو جرائـم حـرب، أو جرائـم ضـد الإنسـانية. وتنـص ديباجـة الاتفاقيـة علـى أنـه “يجـب ألا تمـر أخطـر الجرائـم التـي تهـم المجتمـع الدولـي ككل دون عقـاب”، وأن المهمـة ـل فـي “المسـاعدة فـي وضـع حـد لإفـ ت َّ الأساسـية للمحكمـة الجنائيـة الدوليـة تتمث مرتكب ـي أخطـر الجرائ ـم الت ـي تهـم المجتمـع الدول ـي ككل مـن العق ـاب، وبالتال ـي )، وتنـم فلسـفة تأسـيس المحكمـة الجنائيـة الدولية 20(” الإسـهام فـي منـع هـذه الجرائـم ـر علـى المجتمـع الدولـي عقـب الحـرب َّ ع بالمنطـق القانونـي الـذي أث ُّ عـن بعـض التشـب العالمي ـة الثاني ـة. وقـد جـاء فـي حكـم المحكمـة العسـكرية الدولي ـة، فـي الأول مـن ، أن “الجرائ ـم الت ـي يعاقـب عليهـا القان ـون الدول ـي 1946 أكتوبر/تشـرين الأول عـام يق ـوم به ـا أشـخاص، ولي ـس كيان ـات تجريدي ـة، ول ـن يمكـن ف ـرض بن ـود القان ـون .)21(” الدولـي إلا مـن خـ ل معاقبـة أولئـك الأشـخاص 1718 ، بمقتضـى القـرار 2006 قـررت الأمم المتحـدة تأسـيس لجن ـة العقوبـات، عـام ا علـى أول اختبـار نـووي قامـت بـه كوريـا الشـمالية ّ ً وفـرض عقوبـات اقتصاديـة رد .2009 قب ـل أن اتسـع نطـاق العمـل بنظـام العقوب ـات وتشـكيل لجـان الخب ـراء عـام ـا فـي متابعـة المجتمـع الدولـي لتطـورات ّ ً وأصبـح مطلـب المسـاءلة والمحاسـبة محوري الأوضـاع فـي مختلـف بـؤر الصـراع وفـي مقدمتهـا التطاحنـات المسـلحة فـي عـدة )، النائب السـابق لرئيـس مجموعة Nick Grono( دول فـي إفريقيـا. يقـول نيـك غرونـو ، حيـث كان جوزيـف ً الأزمـات الدوليـة، بشـأن تقلبـات الصـراع فـي أوغنـدا مثـ )، زعي ـم جي ـش مقاومـة ال ـرب المعـارض، يقات ـل الحكومـة: Joseph Kony( كون ـي

| 18

إن “عـدم القي ـام ب ـأي شـيء ينطـوي عل ـى توجي ـه رسـالة قوي ـة عـن الإف ـ ت مـن العقـاب، ويـديم الشـعور الرهيـب بالصدمـة، والضيـاع، والظلـم، والاسـتبعاد الـذي يشـعر بـه الضحايـا. وفـي الوقـت ذاتـه، فـإن تفعيـل آليـات العدالـة الانتقاليـة مـن ض عمليـات ِّ خـ ل عمليـات قـول الحقيقـة أو آليـات العدالـة الجنائيـة يمكـن أن يعـر الســ م الدقيقــة للخطــر حيــث لا يــزال مرتكبــو العنــف يتمتعــون بحــق النقــض. والأكث ـر مـن ذل ـك، فـإن عملي ـات العدال ـة الانتقالي ـة الت ـي لا تضمـن معايي ـر دني ـا معينــة مــن الإجــراءات القانونيــة الســليمة وســيادة القانــون مــن المرجــح أن يتــم )؛ فـ غرابـة أن يصبـح بنـاء السـ م عمليـة معقـدة 22(” إسـقاطها أو تسييسـها بسـرعة تنـم عـن الحيـرة فـي ترتيـب الخطـوات العمليـة كنـواة لتحقيـق العدالـة الانتقاليـة. فــي هــذا الســياق الدولــي، يتســع نطــاق انتشــار فلســفة العدالــة الانتقاليــة بــن الفئـات المتضـررة مـن الحـروب الأهليـة، وتـزداد المطالبـة بتحقيقهـا فـي كافـة أرجـاء العالـم. وفـي ظـل توقعـات المركزيـة الليبراليـة الغربيـة، أصبحـت العجالـة الانتقاليـة كإجـراء معيـاري مـن الناحيـة القانونيـة والأخلاقيـة بمنزلـة تصـور تبسـيطي للعدالـة، ا للانتقـال مـن الحكـم الاسـتبدادي إلـى ديمقراطيـة ً ـا مختصـر ً بـل غـدت تمثـل طريق تمثيلي ـة حسـب الطـراز الغرب ـي. لكـن، ينبغ ـي التشـديد عل ـى أن العدال ـة الانتقالي ـة ـى مـن فـراغ نظـري أو َّ كحصيلـة للعمـل الفكـري فـي مجـال حقـوق الإنسـان لا تتأت مقيـاس قيمـي فـي المجتمعـات المعاصـرة، بـل باعتبارهـا مؤسسـة لهـا ثقـل نظـري دولـي فـي المشـروع الأكبـر لحقـوق الإنسـان كقيـم أصبحـت كونيـة. )، المفوضـة الس ـامية Louise Arbour( عل ـى المس ـتوى العمل ـي، يب ـدو أن لوي ـز أرب ـور هـت َّ ا، دخلـت كتـب التاريـخ عندمـا وج ً لـدى الأمم المتحـدة لحقـوق الإنسـان سـابق

19 |

أولويات العدالة الانتقالية: قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟

الته ـم إل ـى رئي ـس دول ـة وه ـو لا ي ـزال يم ـارس صلاحيت ـه، ه ـو الرئي ـس الصرب ـي، سـلوبودان ميلوسـوفيتش؛ فكتب ـت فـي قـرار توجي ـه الاتهـام تقـول: إن ـه “يجـب أن يكـون للعدالـة الانتقاليـة طمـوح للمسـاعدة فـي تحويـل المجتمعـات المضطهـدة إلـى مجتمعـات حـرة مـن خـ ل معالجـة مظالـم الماضـي باتخـاذ تدابيـر مـن شـأنها ضمان ). “وقـد تتخـذ هـذه الهيئـات -مثـل المفوضيـة السـامية لحقـوق 23(” مسـتقبل عـادل )1 : ــا وصلاحيــات متباينــة، بيــد أنهــا تتســم بمواصفــات متشــابهة ً الإنســان- صيغ ) التحقيـق فـي نمـط الأحـداث 2 . التركيـز علـى الأحـداث الماضيـة، وليـس الجاريـة ) التعامـل المباشـر وعلـى نطـاق واسـع 3 . التـي وقعـت علـى مـدى فتـرة زمنيـة معينـة ) يتـم تأسيسـها كهيئـات 4 . مـع السـكان المتضرريـن، وجمـع المعلومـات عـن تجاربهـم بـل ِ ـا أو مخولـة مـن ق ّ ً ) هيئـات معتمـدة رسمي 5 . مؤقتـة بهـدف إعـداد تقاريـر نهائيـة .)24(” الدولـة وتكـون قيـد المراجعـة . روافد مأسسة العدالة الانتقالية 3 ، وجـاء فـي أحـد أعدادهـا 2007 تأسـيس المجلـة الدوليـة للعدالـة الانتقاليـة عـام َّ تم “خـ ل العقديـن الماضيـن، أصبحـت البلـدان الخارجـة مـن تاريـخ منقسـم تدمـج آلي ـات العدال ـة الانتقالي ـة بشـكل متزاي ـد مـن أجـل الكشـف عـن جرائ ـم الماضـي ا كمجـال معتـرف بـه للخبـرة ً والتعامـل معهـا. لقـد بـرزت العدالـة الانتقاليـة سـريع ـا بحـد ذاته ـا. (...) ّ ً ـا أكاديمي ً السياسـية والبحثي ـة والقانوني ـة. والي ـوم، تعتب ـر تخصص ومـن خـ ل الاستشـهاد بعمليـات العدالـة الانتقاليـة كوسـيلة أساسـية لتحقيـق هـذا الهـدف، أعلـن كوفـي عنـان أن الأمم المتحـدة تعمـل علـى اعتمـاد “أدوات جديـدة ). وم ـع 25(” مهم ـة” لتعزي ـز عملي ـات العدال ـة الانتقالي ـة ف ـي دول م ـا بع ـد الصـراع

| 20

شـيوع مفهـوم العدالـة الانتقالي ـة بـن شـتى الهيئ ـات الحقوقي ـة والسياسـية وتحليلهـا ـا حـول الغايـة مـن ً مفتوح ً ضمـن الكتابـات الأكاديمي ـة، فإنـه لا يـزال يثي ـر سـجا تحقيقـه رغـم التوافـق النظـري والإجرائـي علـى أنـه يشـمل سلسـلة ممارسـات وأدوات وآليـات تسـتهدف التعامـل مـع خطايـا الماضـي مثـل المحاكمـات، ولجـان الحقيقـة، .)26( وعملي ـات التطهي ـر، والتدقي ـق، وجب ـر الضـرر ـا عـن مـدى المنحـى البراغماتـي أو العملـي فـي قيـاس تحقيـق ً هـذا السـجال أيض ُّ ينـم )، أو قاعــدة كونيــة 27( العدالــة الانتقاليــة التــي أصبحــت بمنزلــة “مشــروع كونــي ). ويلاحــظ بعــض المحللــن كيــف أن 29(” )، أو تصــور دولــي مهيمــن 28( جديــدة الـدول الخارجـة مـن دوامـة الحكـم الاسـتبدادي أو فتـرات العنـف والنـزاع المسـلح “أصبحـت مطالبـة الآن بـأن تقـوم بنشـر آليـات العدالـة الانتقاليـة مـن أجـل تسـهيل )، الباحث ـة ف ـي Kathrin Braun( )، وتق ـول كاثري ـن ب ـراون 31()30(” عملي ـة الانتق ـال عل ـم الاجتمـاع ف ـي جامع ـة فيين ـا: إن “مفهـوم الانتق ـال يعمـل ضمـن فت ـرة زمني ـة ) لقــد 1 : سياســية معينــة، يتضمــن سلســلة مــن الافتراضــات المعياريــة والسياســية ) كان الماضـي 2 . ـى الماضـي، والعلاقـة بـن الماضـي والحاضـر فـي حالـة توقـف َّ ول فت ـرة مـن الخطاي ـا المنهجي ـة الت ـي ارتكبتهـا الدول ـة أو تغاضـت عنهـا، وينبغـي الآن ) الحاضـر هـو فتـرة التغييـر، فيمـا تتجـه الدولـة والمجتمـع 3 . تجـاوز ميـراث الماضـي نحـو مسـتقبل يتسـم بالسـ م والديمقراطي ـة، وبمجـرد تحقي ـق السـ م والديمقراطي ـة، ) خـ ل 4 ـل السـ م والديمقراطيـة نهايـة المرحلـة الانتقاليـة. و ِّ ينتهـي الانتقـال؛ إذ يمث المراحــل الانتقاليــة، لا تــزال هــذه العمليــة جاريــة، ولا يــزال هنــاك شــوط آخــر. والعدال ـة الانتقالي ـة ه ـي وسـيلة لإبع ـاد الدول ـة والمجتم ـع عـن إرث الماضـي حت ـى

21 |

أولويات العدالة الانتقالية: قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟

.)32(” نهاي ـة المرحل ـة الانتقالي ـة الت ـي تتسـم بالديمقراطي ـة والسـ م بيــد أن التحــدي الأكبــر يكمــن فــي الإشــكاليات التــي يثيرهــا التمســك بتحقيــق العدالـة الانتقاليـة عنـد اسـتمالة مقومـات بنـاء السـ م الهـش فـي مجتمعـات عانـت العنــف والاغتصــاب ومنطــق الغلبــة لقــوة الســ ح ومظالــم أخــرى بــن مســارين متوازيـن: أولهمـا: تطبيـق القانـون ومعاقبـة المسـؤولي عـن تلـك الأعمـال مـن منطلق ـات المنطـق القانون ـي)، وثانيهم ـا: حصيل ـة أي ـة عملي ـة محاكم ـة أو َّ ي ِ غ َ ب ْ ن َ معي ـاري (أو ي تنفي ـذ العقوب ـات س ـواء ضم ـن عم ـل المحاك ـم أو لجـان المصالحـة المحلي ـة أو المحكم ـة الجنائي ـة الدولي ـة مـن منطل ـق واقعـي (أو متطلب ـات بن ـاء السـ م المجتمعـي). عـدد مـن خبـراء الأزمـات والصراعـات بـأن هـذه المجتمعـات تواجـه خيـارات ُّ ـر ِ ق ُ ي صعبـة فـي تحديـد السـبل الكفيلـة بتجـاوز تركـة العنـف وضـرورة محاسـبة الجنـاة، كان هـاورد زيهـر ْ وفـي الوقـت ذاتـه، الانخـراط فـي بنـاء السـ م وبنـاء الدولـة، وإن مـن التدابي ـر الجزائي ـة”. ويجـادل ً نفسـه يدعـو للنظـر ف ـي “التدابي ـر التصالحي ـة ب ـد ج سـوى ِّ بعـض منتقـدي النسـق الانتقالـي برمتـه بالقـول: إن العدالـة الانتقاليـة لا تـرو “لمفهــوم ليبرالــي نحيــف للعدالــة يتجاهــل أو حتــى يمنــع مســاءلة القــوة والهيمنــة ). ولا 33(” وعــدم المســاواة الاجتماعيــة والعدالــة الاجتماعيــة والتغييــر الاجتماعــي ي ـزال صـدى المقول ـة الش ـهيرة للم ـن الع ـام ل ـأمم المتحـدة ف ـي الخمس ـينات، داغ د علـى أنـه “لـم يتـم تأسـيس الأمم المتحـدة مـن أجـل َّ هامرشـولد، يتـردد بعدمـا شـد .)34(” أن تأخـذ البشـر إل ـى الجن ـة، ب ـل أن تحمـي الإنسـانية مـن جهن ـم .عدالة بلا حدود أم مجرد لباقة سياسة دولية؟ 4 تعـددت تجـاربلجـان الكشـف عـن الحقيقـة وتحقيـق المصالحـة فـي أكثـر مـن أربعـن

| 22

مــن دول العالــم فــي العقــود الثلاثــة الماضيــة. ويمكــن ذكــر أهمهــا، مثــل اللجنــة )، واللجن ـة الوطني ـة 1982( الوطني ـة للبحـث عـن الأشـخاص المفقودي ـن فـي بوليفي ـا )، ولجنـة التحقيـق فـي الجرائـم 1983( الخاصـة بالأشـخاص المفقوديـن فـي الأرجنتـن )، ولجنـة الحقيقة 1990( والانتهـاكات التـي ارتكبهـا الرئيـس حسـن حبـري فـي تشـاد )، ولجن ـة الحقيق ـة ف ـي الإك ـوادور 1990( )، وتش ـيلي 2004( والمصالحـة ف ـي الكونغ ـو )، واللجنــة المكلفــة بقضيــة المختفــن التــي تم تشــكيلها فــي الجزائــر عــام 1988( )، ولجنـة الحقيقـة والكرامـة 2011( )، واللجنـة الوطنيـة للحقيقـة فـي البرازيـل 2003( )، وغيرهـا. 2017( )، ولجن ـة الحقيقـة والتعويضـات فـي غامبي ـا 2014( فـي تون ـس عـن الأسـباب التـي سـبق ذكرهـا فـي اختيـار التجـارب الثـ ث الشـهيرة فـي ً فضـ ى َّ عمـل لجـان الحقيقـة والمصالحـة الوطنيـة في تشـيلي وجنـوب إفريقيا والمغـرب، تتوخ هـذه الدراسـة تقييـم هـذه الحـالات الثـ ث مـن خـ ل منهجيـة التحليـل المقـارن بغيــة اكتشــاف أوجــه التشــابه والاختــ ف بينهــا. وكمــا يقــول عالــم الاجتمــاع، )، فـي كتابـه بعنـوان “بنيـات كبيـرة، وعمليـات واسـعة، Charles Tilly( تشـارلز تيلـي ا م ـن ً ا صغي ـر ً ومقارن ـات ضخم ـة”، ف ـإن منهجي ـة “المقارن ـة الفردي ـة تعك ـس ع ـدد الحـالات مـن أجـل فهـم خصوصيـات كل حالـة، وإن تعميـم المقارنـة يهـدف إلـى .)35(” إثبـات أن كل حالـة مـن هـذه الظاهـرة تتبـع فـي الأسـاس نفـس القاعـدة . الحالة الأولى: تشيلي 1.4 )، ف ـي الحـادي Patricio Aylwin( ـد انتخـاب مرشـح الرئاسـة، بتريشـيو أيلوي ـن َّ جس ، لحظـة الفصـل مـع صفحـة قاتمـة فـي تاريـخ العنـف 1990 عشـر مـن مـارس/آذار

23 |

أولويات العدالة الانتقالية: قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟

ا لتشـكيل ّ ً ا رئاسـي ً السياسـي ونهايـة للحكـم العسـكري فـي تشـيلي. فأصـدر مرسـوم ) لكشـف الحقيقـة والمصالحـة Rettig Commission( ” رفـت باسـم “لجنـة ريتيـغ ُ لجنـة ع بـن المسـؤولي عـن انتهـاكات حقـوق الإنسـان وأسـر ضحايـا الاغتيـالات والاختفـاء ـا مـن البطـش تحـت نظـام الجنـرال، ً القسـري خـ ل فتـرة امتـدت سـبعة عشـر عام أوغسـتو بينوشـيه. وكانـت الذاكـرة الجماعيـة لـدى أغلـب السـكان تسـتعيد مشـهد ؛ عندمـا هاجمـت وحـدة عسـكرية القصـر 1973 الحـادي عشـر مـن سـبتمبر/أيلول ) وســط العاصمــة، ســانتياغو، بقيــادة الجنــرال بينوشــيه، La Moneda( الجمهــوري ث ـر ُ بع ـد س ـاعات قليل ـة م ـن ف ـوز الرئي ـس المنتخ ـب، س ـالفادور ألان ـدي، ال ـذي ع ـا”، بعـد إعـ ن نجـاح الانقـ ب العسـكري. ً عليـه “ميت كان ألانـدي ينـادي بالجـدوى مـن مبادرتـه “الطريـق الآمـن إلـى الاشـتراكية” التـي لقي ـت تأيي ـد فئ ـات واسـعة م ـن ال ـرأي الع ـام الدول ـي. وعق ـب وفات ـه ف ـي القصـر ل إلـى شـخصية اكتسـبت قـوة الرمـز. فأصبـح شـعار احتـرام حقـوق َّ الرئاسـي، تحـو ـا لق ـوة النظ ـام العس ـكري طـوال سـنوات الديكتاتوري ـة. وف ـي ً موازن ً الإنس ـان ثق ـ مــن الكنائــس بقيــادة الكنيســة ٌ ل ائتــ ف َّ ، شــك 1973 أعقــاب انقــ ب عــام منصــب 1976- ا مــن عــام ً الكاثوليكيــة “لجنــة الســ م”، التــي أصبحــت -اعتبــار نائــب رئيــس أبرشــية ســانتياغو الكاثوليكيــة للتضامــن. وقدمــت هــذه المنظمــات المتعاقب ـة الدعـم المعن ـوي والمسـاعدة القانوني ـة لآلاف مـن ضحايـا القمـع السياسـي ـت التوثيـق الدقيـق لـكل حالـة مـن انتهـاكات حقوق الإنسـان، َّ وعائلاتهـم. كمـا تول وأصـدرت تقاريـر عديـدة وشـاملة عـن الوضـع العـام لحقـوق الإنسـان فـي تشـيلي. ف ـي الوق ـت ذات ـه، كان ـت الأمم المتح ـدة ومنظم ـة ال ـدول الأميركي ـة تنتق ـد تش ـيلي

| 24

لعـدة سـنوات بسـبب سـجلها السـيء فـي مجـال الحريـات العامـة، ودمغـت صورتها لـدى الـرأي العـام الدولـي علـى أنهـا مـن أسـوأ الـدول التـي يعانـي مواطنوهـا القهـر .)36( والاضطهــاد ، صلاحيـات “لجنـة ريتيـغ”، التـي ضمـت 1990 د قـرار الرئيـس، أيلويـن، عـام َّ حـد ) تركيـب صـورة متكاملـة قـدر 1 : ثمانيـة أعضـاء، والغايـات المتوخـاة مـن تشـكيلها ) جمــع 2 . الإمــكان لأخطــر انتهــاكات حقــوق الإنســان التــي وقعــت فــي البــ د الأدلـة للسـماح بوضـع قائمـة تحـدد أسمـاء الضحايـا ومصيرهـم ومـكان وجودهـم. ) تقــديم توصيــات 4 ) تقــديم توصيــات بشــأن التعويضــات لعائــ ت الضحايــا. و 3 .)37( بشـأن التدابي ـر القانوني ـة والإداري ـة لتف ـادي حـدوث انتهـاكات ف ـي المسـتقبل وتماهـت هـذه الخطـوة الجريئـة مـع الموجـة التـي تدرجـت فيهـا أغلـب دول أميـركا اللاتينيــة، خاصــة الأرجنتــن والإكــوادور، مــن حكــم الاســتبداد وديكتاتوريــة الجنــرالات إلــى تبنــي إصلاحــات ديمقراطيــة وتأســيس دول مدنيــة خــ ل حقبــة ــم علــى حكومــة الرئيــس، أيلويــن، عنــد تحديــد َّ الثمانينــات والتســعينات. فتحت سياسـتها الجدي ـدة فـي مجـال حقـوق الإنسـان، أن “تأخـذ بعـن الاعتب ـار حصيل ـة التجـارب فـي الـدول والبلـدان الأخـرى، ومبـادئ القانـون الدولـي، ورأي الهيئـات .)38(” الت ـي تداف ـع عـن حق ـوق الإنسـان عل ـى الصعي ـد الدول ـي ، قدمـت اللجن ـة مـا توصل ـت إلي ـه مـن نتائ ـج 1991 فـي التاسـع مـن فبراير/شـباط وتوصيـات إلـى الرئيـس أيلويـن الـذي أعلنهـا فـي خطـاب تليفزيونـي إلـى الشـعب التشـيلي فـي الرابـع مـن مـارس/آذار التالـي. وتوصلـت إلـى حـدوث عمليـات قتـل مـن المختفـن عقـب احتجازهـم 957 ا لأسـباب سياسـية، بمـن فيهـم ً شـخص 2279 لــ

25 |

أولويات العدالة الانتقالية: قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟

حالـة ضمـن “ضحايـا العنـف السياسـي” 164 فـت اللجنـة َّ مـن قبـل السـلطات. وصن ـا آخـرون لقـوا حتفهـم علـى أيـدي متطرفـي التيـار ً مـن بينهـم ضبـاط شـرطة وأيض حالـة، كل علـى 3400 اليسـاري فـي البـ د. وكانـت اللجنـة قـد دققـت فـي حوالـي حـدة، قبـل التوصـل إلـى اتفـاق بـن المحققـن علـى الكيفيـة التـي سـتقدم بهـا كل ت ـل فيهـا ُ حال ـة انطـوت عل ـى انتهـاكات لحق ـوق الإنسـان بشـكل خطي ـر أو الت ـي ق ـا أن قـرارات اللجنـة ً أشـخاص نتيجـة العنـف السياسـي. ويوضـح تقريـر اللجنـة أيض .)39(” ـا متسـقة مـع ضميـر أعضائهـا ً “كانـت دائم ع أعضـاء “لجن ـة ريتي ـغ” من ـد البداي ـة ب ـأن الحقيق ـة الت ـي كان عليه ـم التوصـل َّ تش ـب إليه ـا تنط ـوي عل ـى غاي ـة واضحـة ومحـددة: “العم ـل عل ـى تحقي ـق المصالحـة ب ـن )40(” جمي ـع التش ـيليي، واسـتعانت ب ـآراء بع ـض الش ـخصيات الوطني ـة ف ـي الب ـ د ت جميـع الأحـزاب بصحـة الوقائـع التـي تم التحقيـق فيهـا َّ وعقـب نشـر التقريـر، أقـر علـى الرغـم مـن بعـض الخلافـات حـول تأويـل بعـض الأحـداث التاريخيـة. وليـس ـا أن تعـارض مؤسسـتا الجيـش والبحريـة خاصـة بشـأن وضـع حكومـة الرئيـس ً غريب ألانـدي ودور الحكومـة العسـكرية فـي تلـك الحقبـة. ـا أنهـا “اكتفـت بتحدي ـد أسمـاء الضحاي ـا ولي ـس ً مـن المثي ـر فـي نتائ ـج اللجن ـة أيض أسمـاء الجن ـاة”، وأش ـارت إل ـى مج ـرد الف ـرع أو الوح ـدة المس ـؤولة ضم ـن الق ـوات المســلحة أو الشــرطة، دون توجيــه الاتهــام إلــى الضب ـاط العاملــن فــي أي منهمــا. وأوضحـت أن “تحديـد أسمـاء لا يدافعـون عـن أنفسـهم ويتحتـم عليهـم القيـام بذلـك قـد يتسـاوى مـع إصـدار حكـم علـى شـخص دون ضمـان حقـه فـي محاكمـة عادلة وفـق القانـون، وأن هـذا الأمـر يتعـارض مـع كل مـن نـص وروح القانـون ومبـادئ

| 26

إجـراء َّ ) كمـا شـددت علـى أنهـا “ليسـت محكمـة ولـم تتـول 41(” حقـوق الإنسـان محاكمـات”. وجـاء فـي تقريـر اللجنـة أنهـا “لـم تفتـرض أن موظفـي الحكومـة كانـوا تل ـوا بالأس ـلحة ُ ـا أنه ـم ق ً متورط ـن ف ـي مقت ـل الأف ـراد حت ـى عندم ـا يك ـون واضح ا، مـا ّ ً الناري ـة، وعندمـا يكـون هن ـاك كل سـبب للاعتقـاد ب ـأن الدافـع كان سياسـي .)42(” لـم تكـن هنـاك أسـباب لهـذا الاسـتنتاج بيــد أن اللجنــة أرســلت إلــى المحاكــم مــا توصلــت إليــه مــن أدلــة علــى الجرائــم ). وفــي ضــوء هــذه المعلومــات 1973-1990( المرتكبــة خــ ل حقبــة الاضطهــاد والأدلـة الجديـدة، قـررت بعـض المحاكـم فـي التشـيلي تحريـك التحقيقـات القضائيـة ف ـي ع ـدد م ـن ح ـالات الاختف ـاء، وعق ـدت جلس ـات محاكم ـة للمس ـؤولي ع ـن ) الش ـهيرة. ويب ـدو أن نتائ ـج Letelier( الاغتي ـالات السياس ـية ومنه ـا قضي ـة لوتولي ـي “لجنـة ريتيـغ” سـاهمت فـي إيجـاد المنـاخ السياسـي والزخـم القضائـي للتوصـل إلـى “الحقيقـة الكبـرى”، وبالتالـي تحفيـز بعـض القضـاة المتحمسـن علـى الاسـتمرار فـي .)43( التحقي ـق ف ـي قضاي ـا محـددة ا لعلاقتهــم بانتهــاكات حقــوق ً شــخص 76 ، أدان القضــاء 2012 بحلــول مايو/آيــار مــن 27 ــا فــي الجيــش، و ً ضابط 36 : منهــم 67 الإنســان، وصــدرت أحــكام علــى ضبـاط قـوة الأمـن الوطنيـة، واثنـن مـن ضبـاط سـ ح الجـو، وواحـد مـن البحريـة، وواحـد مـن شـرطة التحقيقـات. وقـد توفـي ثلاث ـة مـن الأشـخاص المدان ـن فيمـا مـن حـالات 350 تلقـى سـتة آخـرون عقوبـات سـجنية مشـروطة. ولا تـزال ملفـات الاختفــاء القســري والاعتقــال التعســفي والتعذيــب مفتوحــة. وتفيــد التقاريــر بــأن شــخص مــن العســكريي والمدنيــن متورطــون فــي تلــك الحــالات 700 مجمــوع

27 |

أولويات العدالة الانتقالية: قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟

لانته ـاكات حق ـوق الإنسـان ف ـي الب ـ د. كان ـت تحدي ـات تحقي ـق العدال ـة الانتقالي ـة المنش ـودة مضني ـة. ويق ـول خـوزي زلاكي ـت )، فــي مقدمــة النســخة الإنجليزيــة لتقريــر اللجنــة الوطنيــة للحقيقــة Jos é Zalaquett( والمصالحـة، إنـه علـى الرغـم مـن أن تشـيلي “تأخـذ العبـرة مـن التجـارب السـابقة فـي الق ـارة، إلا أن ال ـدرس الرصـن ال ـذي انطـوت علي ـه تل ـك التجـارب هـو أن المخاطـر السياسـية التـي تنطـوي عليهـا تسـوية الحسـابات مـع الماضي جسـيمة بشـكل غيـر عادي. ولا يمكـن توقـع التوصـل إلـى نتيجـة مرضيـة بشـكل كامـل، وأن التوتـرات الاجتماعيـة .)44(” الناجمـة عـن تركـة انتهـاكات حقـوق الإنسـان لا تـزال قائمـة لفت ـرة طويل ـة أقـرت اللجن ـة بأنهـا واجهـت بعـض تحديـات المفاهي ـم والـدلالات السـيميائية فـي مراعـاة بعـض الضوابـط والمعاييـر التـي نـص عليهـا المرسـوم الرئاسـي. مثـال ذلـك، عبـارة “المسـؤولية الأخلاقيـة للدولـة” التـي يشـير إليهـا المرسـوم الرئاسـي علـى أنهـا بــل أشــخاص يعملــون فــي ِ “تتعــرض للخطــر بســبب تصرفــات وكلائهــا أو مــن ق خدمـة الدول ـة”. وخلصـت اللجن ـة إل ـى أن ـه لي ـس “للمسـؤولية الأخلاقي ـة للدول ـة” .)45( معن ـى قانون ـي أو تقن ـي محـدد دت اللجنــة فــي الجــزء الرابــع مــن التقريــر، وهــو بعنــوان “توصيــات جبــر َّ شــد الضــرر”، علــى أنــه “يتعــن علــى المجتمــع التشــيلي برمتــه أن يســتجيب لتحــدي جبـر الضـرر. وينبغـي أن تتحـرك هـذه العمليـة نحـو الاعتـراف بحقيقـة مـا حـدث، واسـتعادة الكرامـة المعنويـة للضحايـا، وتحقيـق نوعيـة حيـاة أفضـل للعائـ ت الأكثـر ً ا بشـكل مباشـر. بهـذه الطريقـة فقـط سـنتمكن مـن تطويـر شـكل أكثـر عـد ً تضـرر مـن الحيـاة المشـتركة التـي سـتمكننا مـن النظـر بأمـل نحـو المسـتقبل”. ويعنـي جبـر

| 28

الضـرر فـي رأي أعضـاء اللجنـة “وجـود الشـجاعة لمواجهـة الحقيقـة وتحقيـق العدالة”، ويتطلـب “كـرم المـرء فـي الاعتـراف بأخطائـه وروح التسـامح حتـى يتوحد التشـيليون ــا” ويــزداد هــذا الطــرح المثالــي بتشــديد اللجنــة علــى أن تدابيــر جبــر الضــرر ً مع ينبغـي أن تسـتهدف فئـات المجتمـع والتحـرك نحـو تهيئـة الظـروف المواتيـة لتحقيـق ا ً ) وتبنـت اللجنـة مـا اعتبرتـه خيـار 46(” ا ً ب الانقسـام أبـد ِّ مصالحـة حقيقيـة، وألا تسـب ا للمجتمـع التشـيلي بالقـول: إنـه عندمـا تعلـو المنـاداة بالمثـل العليـا العظيمة ّ ً اسـتراتيجي .)47( كالحقيقـة والعدالـة والمغفـرة، فـإن المصالحـة ينبغـي أن تأتـي فـي المقـام الأول . الحالة الثانية: جنوب إفريقيا 2.4 ـا ّ ً ـا وثقافي ّ ً ا واقتصادي ّ ً ـا سياسـي ً شـهدت نهايـات الثمانينـات مـن القـرن الماضـي احتقان بـن الأقليـة البيضـاء الحاكمـة والأغلبيـة السـوداء بسـبب سياسـة الفصـل العنصـري . وب ـدأ الحـزب الوطن ـي 1948 (آبارثاي ـد) ال ـذي شـهدتها جن ـوب إفريقي ـا من ـذ عـام )Frederik Willem de Klerk( الــذي كان يتزعمــه فريديريــك وليــام دي كليــرك ، م ـع الحـزب الوطن ـي الإفريق ـي بزعام ـة نيلس ـون ماندي ـ 1987 مفاوضـات، ع ـام حـول سـبل إنهـاء نظـام الآبارتايـد وسـط ضغـوط العقوبـات الاقتصاديـة التـي كانـت ــل الأغلبيــة الســوداء. بعــد ِّ ــا للتمهيــد لحكومــة تمث ً تفرضهــا الأمم المتحــدة، وأيض ، وألغ ـت الب ـ د 1990 الإف ـراج عـن ماندي ـ م ـن السـجن عـام َّ سـنوات قليل ـة، تم ـد َّ ، مم ـا مه 1991 العم ـل بالنظ ـام العنصـري، ي ـوم الس ـابع عش ـر م ـن يونيو/حزي ـران ، منحـت مانديـ الحـق 1994 لإجـراء انتخابـات ديمقراطيـة، فـي أبريل/نيسـان عـام فـي ْ فـي تشـكيل حكومـة يقودهـا حزبـه فـي حقبـة تعدديـة ومسـاواة غيـر مسـبوقتي جن ـوب إفريقي ـا.

29 |

أولويات العدالة الانتقالية: قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟

تشــكيل لجنــة الحقيقــة والمصالحــة بموجــب قانــون “دعــم الوحــدة والمصالحــة َّ تم ، بعضويــة شــخصيات وطنيــة بــارزة مــن عيــار 1995 ، عــام 34 الوطنيــة”، رقــم ـا للرئي ـس)، ً ) (نائب Alex Boraine( ـا)، وأليكـس بوري ـن ً الق ـس دزمون ـد توت ـو (رئيس ،)Wynand Malan( ) وينامــد مــالان Sisi Khampepe( وعضويــة سيســي خامبيبــي ). وب ـدأت اللجن ـة عق ـد جلسـات الاسـتماع م ـع Emma Mashinini( وإيم ـا مشـنيني ، م ـن 1996 الضحاي ـا وأف ـراد أسـرهم، ي ـوم الخام ـس عشـر م ـن أبريل/نيسـان عـام ) لجنـة التحقيـق فـي انتهـاكات حقـوق الإنسـان التـي 1 : خـ ل ثـ ث لجـان فرعيـة ت اسـتعادة َّ ) لجنـة الجبـر وإعـادة التأهيـل التـي تول 2 .1994 و 1960 وقعـت بـن عامـي ) لجنـة العفـو 3 كرامـة الضحايـا وصياغـة اقتراحـات للمسـاعدة فـي إعـادة التأهيـل. و ـا ً التـي نظـرت فـي الطلبـات المقدمـة مـن الأفـراد الذيـن تقدمـوا بطلـب للعفـو وفق لأحـكام القان ـون. َّ تبــن 19050 ا، مــن بينهــم أكثــر مــن ً شــخص 21290 تلقــت اللجنــة بيانــات مــن أنه ـم كان ـوا ضحاي ـا لانته ـاكات جسـيمة لحق ـوق الإنسـان، فيمـا توصل ـت إل ـى أن ا مـن الحـالات لـم يكـن أصحابهـا ضحايـا. وشـملت قائمـة العفـو أكثـر مـن ً عـدد ـا للمنحـى العقابـي الصـارم التـي اتسـمت ً ـت اللجنـة منحـى مناقض َّ ). وتبن 48(2975 بـه محاكمـات نورمبـرغ وإجـراءات القضـاء علـى النازيـة فـي ألمانيـا عقـب الحـرب العالمي ـة الثاني ـة، ب ـل تمسـكت بالخـط التصالحـي كطريق ـة ناجع ـة ف ـي التعام ـل م ـع انته ـاكات حق ـوق الإنس ـان عق ـب مرحل ـة التحـول السياسـي سـواء بفع ـل عوام ـل داخلي ـة أو خارجي ـة. وأصـدرت تقريرهـا النهائ ـي ف ـي العشـرين م ـن أكتوبر/تشـرين م ـن طلب ـات العف ـو. 5392 بع ـد رفضه ـا 1998 الأول ع ـام

| 30

)، التـي عملـت فـي المكتـب الإعلامـي للجنـة Monica Joyi( تقـول مونيـكا جويـي : إن الغايـة مـن تأسـيس لجنـة الحقيقـة 1997 و 1996 الحقيقـة والمصالحـة خـ ل عامـي والمصالحـة كان “لتهدئ ـة مخـاوف جن ـوب الإفريقي ـن البي ـض، ولكـن ف ـي الوق ـت ن أطفاله ـن وأحبائه ـن ْ ـد َ ق َ ذات ـه، لتق ـديم إجاب ـات للعدي ـد م ـن الأمه ـات اللائ ـي ف تحـت وطـأة فظائـع الفصـل العنصـري. إذا تأمـل المـرء فكـرة العفـو برمتهـا وكيـف تم منـح بعـض مرتكبـي تلـك الأفعـال العفـو، فـإن السـؤال يبـرز حـول ماهيـة الأمـة .)49(” التـي تغفـر المغفـرة وجنـوب الإفريقيـن السـود بالتحديـد حظيــت تجربــة هــذه اللجنــة فــي جنــوب إفريقيــا باهتمــام عالمــي واســع النطــاق ل النفسـي والاجتماعـي للضحايـا وأسـرهم فحسـب، بـل ُّ لأهميتهـا ليـس فـي التحـو ـا فـي اسـتمالة التغييـر البنيـوي وعلاقـات القـوة بـن السـود والبيـض. ويعتبـر ً وأيض البعــض عقــد جلســات للاســتماع لقصــص الضحايــا ومشــاركتهم فــي كشــف الحقيقـة بمنزلـة تجسـيد لرغبـة السـكان فـي اسـتعراض واقـع الماضـي المشـترك، وأنهـا ـاءة فـي طري ـق بن ـاء دول ـة جدي ـدة لا تتنكـر لماضيهـا. وكمـا قـال َّ كان ـت خطـوة بن ): “لا يمكـن تغييـر James Baldwin( الكاتـب الأميركـي الأسـود، جيمـس بولدويـن كل مـا يواجهـه المـرء، لكـن لا يمكـن تغيي ـر أي شـيء حت ـى تت ـم مواجهت ـه”. غيــر أن النقاشــات التــي حركتهــا نتائــج اللجنــة داخــل وخــارج جنــوب إفريقيــا اسـتعرضت الفـوارق الفلسـفية والثقافيـة أكثـر ممـا أثارتـه أيـة تجربـة مصالحـة أخـرى. ) معسـكر الذيـن 1 : ْ ن متوازيـن ْ ويسـتمر الجـدل حتـى الوقـت الحاضـر بـن معسـكري يتمسـكون بمبـدأ تطبيـق القانـون ويصـرون علـى ضـرورة إصـدار عقوبـات علـى كل المتورطــن فــي أعمــال القتــل والاختفــاء القســري والاغتصــاب وبقيــة انتهــاكات

31 |

أولويات العدالة الانتقالية: قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟

) معسـكر المتمسـكي بالسـلم المجتمعـي ونسـبية الحلـول القانونية 2 حقـوق الإنسـان. و ل الإيجابـي. ُّ فـي اسـتمالة التحـو )، أسـتاذة القانـون الدولـي فـي الجامعـة Diane Orentlicher( تقـول ديانـا أورينتليكـر ضـد القمـع ً ـا َّ ـا فع ً الأميركيـة فـي واشـنطن: إن العقوبـة الجنائيـة قـد لا تكـون “ضمان ف ـي المس ـتقبل... م ـن خـ ل إظه ـار أن ـه لا يوجـد قط ـاع ف ـوق القان ـون، وبالتال ـي تعزيـز احتـرام المؤسسـات الديمقراطيـة فحسـب”، بـل إن بعـض الحكومـات قـد تكون مت ـرددة ف ـي التخل ـي عـن الملاحق ـات القضائي ـة بسـبب المخـاوف المحلي ـة والقان ـون الدولــي، و”الضغــوط الدوليــة للامتثــال لهــذا القانــون قــد تكــون طريقــة فعالــة ومحللـون ٌ حقوقيـة ٌ ـه هيئـات َ ـى ذات َ ). وتنحـو المنح 50(” للذهـاب نحـو تأمـن العدالـة ون بـأن القانـون الدولـي يتطلـب معاقبـة منتهكـي مختلـف المعاهـدات ُّ آخـرون يعتـد الدوليـة لحقـوق الإنسـان. وتتمسـك بهـذه الرؤيـة منظمتـا العفـو الدوليـة فـي لنـدن وهيومـن رايتـس ووتـش فـي نيويـورك، وهمـا مـن المنظمـات الدوليـة للدفـاع عـن صـدر بيانـات سياسـية تدعـو للعدالـة الكاملـة فـي مجتمعـات ُ حقـوق الإنسـان التـي ت ). وثم ـة أكث ـر م ـن سـؤال: هـل يسـهم العف ـو عل ـى حسـاب 51( م ـا بع ـد الاسـتبداد العدال ـة ف ـي تعزي ـز المصالحـة أم أن الملاحق ـات القضائي ـة س ـتهدد الديمقراطي ـة م ـن خـ ل إعـادة الحـرس القـديم إلـى مراكـز القـوة؟ هـذه بعـض الفرضيـات التـي تظـل ـا ّ ً دون حس ـم علم ـي ميدان ـي، فيم ـا ل ـم تق ـدم الدراس ـات م ـا يع ـزز أو يدح ـض أي منهـا. فــي المقابــل، تشــيد بعــض الدراســات بلجنــة الحقيقــة والمصالحــة فــي جنــوب إفريقيـا كتجربـة واعـدة علـى طريـق المصالحـة المجتمعيـة والعدالـة الانتقاليـة وترميـم

| 32

العلاقـة بـن الأقليـة البيضـاء والأغلبيـة السـوداء. غيـر أن البعـض يشـير إلـى أوجـه )، مديـرة مركـز Janet Love( القصـور فـي عمـل اللجنـة؛ إذ تدحـضجانيـت لـوف المــوارد القانونيــة فــي جوهانســبورغ بجنــوب افريقيــا، مقولــة: إن اللجنــة حققــت قدمـت “بعـض الحقيقـة التـي كانـت الأمـة فـي حاجـة لهـا للاعتـراف ْ “المعجـزة” وإن ) ويعتقــد آخــرون أنــه علــى الرغــم مــن أنهــا أوجــدت مســتوى مــن 52(” بماضيهــا الحقيق ـة والخط ـاب والحـوار وبع ـض المصالحـة، إلا أنه ـا “أدت إل ـى شـعور بتأجي ـل ــم بــأن اللجنــة قادتنــا علــى طريــق الوئــام ْ ه َ العدالــة بالنســبة للكثيريــن. هنــاك و ا ً العرقــي، ولكــن الواقــع صعــب للغايــة وسيســتغرق الانتقــال الديمقراطــي عقــود ـا م ـا ً طويل ـة. هن ـاك العدي ـد م ـن الانقس ـامات العميق ـة ف ـي جن ـوب إفريقي ـا وغالب .)53(” تتجل ـى ف ـي ع ـدم المس ـاواة الاجتماعي ـة والاقتصادي ـة يعتق ـد محم ـود ممدان ـي أن اللجن ـة “فصل ـت ظاهـرة الفصـل العنصـري عـن تاري ـخ الاسـتعمار الأطـول، وتناولته ـا عل ـى أنه ـا واحـدة م ـن انته ـاكات حق ـوق الإنسـان مـن مشـكلة التقاطـع الاجتماعـي والاقتصـادي والقانونـي والسياسـي ً الفرديـة بـد المنهجـي للهيمنـة الطبقيـة والعرقيـة. لقـد حصـرت لجنـة الحقيقـة والمصالحـة اهتمامها بشـكل صري ـح بالانته ـاكات الجسـيمة لحق ـوق الإنسـان أثن ـاء “نزاعـات الماضـي”، ـا إلـى ّ ً وليـس بمـا فيهـا “سياسـات الفصـل العنصـري”، وهـي سياسـات تشـير ضمني ). ويج ـادل باحث ـون آخ ـرون بالق ـول: إن اللجن ـة ل ـم تس ـتطع 54(”” مج ـرد “الس ـياق التعامـل مـع معضـ ت لا يمكـن دفنهـا أو إلغاؤهـا بجـرة قل ـم مـن تاري ـخ جن ـوب إفريقيــا. ويقــول عبــد القــادر أسمــال: إن هنــاك عشــر معضــ ت يمكــن اختزالهــا ) دون فهـم شـامل للماضـي، سـتظل مشـاكل المسـتقبل 1 : فـي ثـ ث نقـاط رئيسـية

33 |

أولويات العدالة الانتقالية: قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟

غيـر قابلـة للتفسـير، وبالتالـي فـإن جـذور العنـف غي ـر المستكشـفة سـتديم العنـف ) يسـتمر أنصـار النظـام السـابق فـي 2 . فـي المسـتقبل بمـا فيهـا قبـول العنـف البنيـوي تصدي ـق الأسـاطير الت ـي يعتق ـدون أن ـه لا يمكـن تحديه ـا، وبالتال ـي، ف ـإن إهماله ـم ) هن ـاك حاجـة لمجتم ـع 3 . للتاري ـخ سـيولد الاسـتياء والمحـاولات المحتمل ـة للانتق ـام ينبثـق مـن مثـل هـذا النظـام الاسـتبدادي ليكـون لديـه منفـذ للتعبيـر عـن مشـاعره. ـا علـى الحقيقـة والعدالـة، علـى ألا تكـون العدالـة ً ينبغـي أن يكـون هـذا المنفـذ قائم المقعـد الخلفـي باتجـاه تعزيـز الديمقراطيـة بالنظـر إلـى أن تأسـيس ديمقراطيـة مسـتقرة لا ينبنــي بمنــح تنــازلات للجيــش بشــأن القضايــا المتعلقــة بممارســاته العنيفــة فــي .)55( الحي ـاة المدني ـة . الحالة الثالثة: المغرب 3.4 يوليـو/ 23 تولـى محمـد السـادس العـرش عقـب وفـاة والـده، الحسـن الثانـي، فـي ـا باتجـاه الانفت ـاح ً ، وسـط توقع ـات عالي ـة الس ـقف بأن ـه سـيمضي قدم 1999 تم ـوز السياسـي والسـماح بعـودة المعارضـن اليسـاريي مـن المنفـى. وفـي الأعـوام الأربعـة ا، وتم إصـ ح القانـون ّ ً ا نسـبي ً الأولـى مـن حكمـه، شـهدت حريـة الصحافـة تحسـن .2004 ــي مدونــة جديــدة للحــوال الشــخصية، عــام ِّ ، وتبن 2003 الجنائــي، عــام وعقــب مشــاورات مطولــة بــن القصــر الملكــي وبعــض هيئــات المجتمــع المدنــي وعــدد مــن المعتقلــن السياســيي الســابقي، أصــدر الملــك محمــد الســادس، ـا يقضـي بتأسـيس “هيئ ـة الإنصـاف ّ ً ا ملكي ً ودون مش ـاورات م ـع الأحـزاب، ظهي ـر ، وفـق اقتـراح كان قـد 2004 والمصالحـة”، فـي السـابع مـن يناير/كانـون الثانـي عـام مـه إدريـس بـن زكـري، وهـو سـجي يسـاري مـن التيـار الماركسـي اللينينـي ظـل َّ قد

| 34

-). ويبــدو أن الملــك ســعى 1991 1974( ــا ً رهــن الاعتقــال طيلــة ســبعة عشــر عام ، بـ”قلـب الصفحـة بشـكل 1994 للوفـاء بوعـد قطعـه علـى نفسـه أمـام والـده، عـام .)56( نهائ ـي” عل ـى الانته ـاكات الت ـي كان ـت متوات ـرة ف ـي الماضـي يتذكـر محمـد نشـناش، وهـو عضـو سـابق فـي هيئـة الإنصـاف والمصالحـة، مـدى التأثيــر الســلبي الــذي كان ضــد أعضــاء الحركــة الوطنيــة والنشــطاء الوطنيــن، ا مـن العمـ ء كان ـوا فـي مراكـز السـلطة، فـكان هن ـاك اخت ـ ق ً وكي ـف أن “كثي ـر مؤامـرات علـى أن اليسـار يريـد أن يتآمـر علـى العـرش وافتعـال مواجهـة بـن الحسـن الثان ـي والحرك ـة الوطني ـة التقدمي ـة، وم ـا ت ـ ذل ـك م ـن قم ـع ومحاكم ـات وظل ـم ). أمـا المعتقـل 57(” ـا كانـت هنـاك محـاولات حقيقيـة للانقـ ب ً وتعسـف، وأحيان السياسـي السـابق، أحمـد المرزوقـي، فيتذكـر سـجن تازمامـارات سـيئ السـمعة بأنـه “ليـل سـرمدي كحيـاة إنسـان يعيـش فـي قبـر، زنزانـة مظلمـة معزولـة عـن العالـم الخارجـي، وكل زنزانـة علـى حـدة، وكل سـجي كان يوجـد فـي زنزانـة علـى حـدة. ـا وعانينـا البـرد الشـديد؛ إذ كانـت درجـة الحـرارة فـي تازمامـارت ً ـا رهيب ً عشـنا تجويع تنـزل إلـى مـا تحـت الصفـر. أمـا فـي الصيـف، فـكان ينقلـب كمـا تنقلـب الزنزانـة ) وتلاحـظ 58(” منـا مـن كل شـيء، مـن أبسـط حقـوق الإنسـان ِ ر ُ إلـى فـرن. يعنـي ح إحـدى الباحثـات أن “المعارضـن السياسـيي للحسـن الثانـي كانـوا “يختفـون علـى غـرار الطريقـة التـي كانـت الأنظمـة الديكتاتوريـة، فـي تشـيلي والأرجنتـن، تعـذب .)59(” بهـا أو تقتـل المعارضـن وهـم رهـن الاحتجـاز اســتندت هيئــة الإنصــاف والمصالحــة فــي تحديــد المرجعيــة والمنهجيــة المعتمــدة فــي إعــداد التوصيــات إلــى ثلاثــة مصــادر: أ) المعاييــر الدوليــة لحقــوق الإنســان

35 |

أولويات العدالة الانتقالية: قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟

والاسـتفادة مـن التجـارب المقارنـة فـي مجـال العدالـة الانتقاليـة فـي العالـم، وكـذا الاجتهـادات المبل ـورة فيمـا يخـص علاقـة حقـوق الإنسـان بالديمقراطي ـة فـي إطـار الأمم المتحـدة، أو الهيئـات البرلمانيـة الدوليـة. ب) مسـتخلصات التجربـة المغربيـة فـي ب ـة ف ـي الماضـي م ـن حي ـث أنواعه ـا ومداه ـا َ ك َ موضـوع الانته ـاكات الجس ـيمة المرت والمسـؤوليات المؤسسـاتية التـي ارتبطـت بهـا وأوجـه الخصـاص فـي مجـالات القانـون والعدالـة والحكامـة الأمنيـة. ت) الدراسـات والأبحـاث العلميـة للنصـوص التشـريعية والتنظيميـة ذات الصلـة بحقـوق الإنسـان أو تلـك التـي قـد يكـون لهـا أثـر سـلبي أو تعزيـزه وتقويتـه، َّ مـا يتعـن ُّ ـن مـن تبـن َّ إيجابـي علـى احترامهـا والتمتـع بهـا. ممـا مك .)60( أو إلغـاؤه، أو تتميمـه أو وضعـه لأول مـرة، علـى صعيـد الضمانـات والمسـاطر ا برئاسـة بـن ً خـ ل العـام الموالـي، أجـرت الهيئـة التـي ضمـت سـبعة عشـر عضـو زكـري عـدة تحقيقـات ونظمـت سلسـلة ملتقي ـات وجلسـات عب ـر أرجـاء المغـرب. مــن حــالات الاختفــاء القســري والتعذيــب 15592 وتوصلــت إلــى حــدوث والاغتصـاب الجنس ـي وجرائ ـم أخ ـرى ضـد الإنس ـانية واعتق ـالات تعس ـفية خ ـ ل سـنوات الرصـاص التـي اسـتغرقها حكـم الحسـن الثانـي. غيـر أن الهيئـة لـم تسـتطيع )، وأظهــرت النتائــج 61( مــن الأشــخاص المفقوديــن 742 تحديــد مصيــر أكثــر مــن الحقائ ـق التالي ـة: ا توف ـوا ره ـن الاحتجـاز ووقف ـت ً شـخص 89 - اكتشـاف أو تدقي ـق أو تحدي ـد هوي ـة ،)16( )، وقلعـة مكونـة 32( )، وأكـدز 31( علـى أماكـن دفنهـم بـكل مـن تازمامـارت .)1( )، وق ـرب سـد المنصـور الذهب ـي 1( )، وكرامـة 8( وتاكوني ـت ا توفـوا علـى إثـر مواجهـات مسـلحة والوقـوف ً شـخص 11 - اكتشـاف وتحديـد هويـة

| 36

(مجموعـة بركاتـو ومـولاي 1960 أشـخاص منهـم توفـوا سـنة 7 ، علـى أماكـن دفنهـم (مجموعـة شـيخ العـرب). 1964 منهـم سـنة 4 الشـافعي) و مـن الأشـخاص المدرجـة أسمـاء بعضهـم فـي عـداد مجهولـي المصيـر توفـوا 325 - وفــاة) 114( 1981 وفــاة) و 50( 1965 إثــر الأحــداث الاجتماعيــة الواقعــة ســنوات 12 ، بطنجـة 1 ، بالقصـر الكبيـر 4 ، بتطـوان 13 : وفـاة موزعـة كمـا يلـي 49( 1984 و وفـاة) بسـبب 112( 1990 ببـركان)، و 2 بزايـو و 1 ، بالناظـور ونواحيهـا 16 ، بالحسـيمة الاسـتعمال المفـرط وغي ـر المتناسـب للقـوة العمومي ـة. وتوصل ـت الهيئ ـة إلـى تحديـد .)62( أماكـن دفـن بعضهـم، ولـم تتمكـن مـن التعـرف علـى هويـة البعـض الآخـر تلاحـظ هيومـان رايتـس ووتـش أن صلاحيـة هيئـة الإنصـاف والمصالحـة، بموجـب ، لكـن الملـك محمـد السـادس 2005 نظامهـا الأساسـي، انتهـت فـي أبريل/نيسـان . “وكانــت الهيئــة 2005 لــم يوافــق علــى تمديدهــا إلا فــي نوفمبر/تشــرين الثانــي ـب المراقبـون وقتهـا َّ خـ ل عامهـا الأول قـد حركـت عـدة أمـور مثيـرة للجـدل، ورح د القصـر َّ بصلاحي ـة الهيئ ـة فـي النظـر فـي الانتهـاكات السـابقة، (وهـي قضيـة شـد .)63(” الملكـي علـى أنهـا منتهيـة)، وفـي التعامـل معهـا بمـا يتجـاوز التعويـض المالـي غي ـر أن الدول ـة ل ـم تحـدد للهيئ ـة أي قي ـود عل ـى المبل ـغ ال ـذي يمكنه ـا منحـه سـواء بشـكل شـمولي أو بالنسـبة للحـالات الفرديـة. ويوضـح رئيـس الهيئـة، إدريـس بـن زكـري، أن “لهـا الحـق بشـكل مسـتقل فـي تحديـد المسـتوى المالـي للتعويـض الـذي ســتقدمه الدولــة لضحايــا الإســاءات الســابقة الذيــن يتقدمــون بطلــب للحصــول علي ـه. وتأت ـي الأم ـوال الصـادرة له ـم م ـن ميزاني ـة الدول ـة. ونرسـل قراراتن ـا بشـأن .)64(” التعوي ـض إل ـى رئي ـس ال ـوزراء ليتول ـى التوقي ـع عل ـى الشـيكات

Page 1 Page 2 Page 3 Page 4 Page 5 Page 6 Page 7 Page 8 Page 9 Page 10 Page 11 Page 12 Page 13 Page 14 Page 15 Page 16 Page 17 Page 18 Page 19 Page 20 Page 21 Page 22 Page 23 Page 24 Page 25 Page 26 Page 27 Page 28 Page 29 Page 30 Page 31 Page 32 Page 33 Page 34 Page 35 Page 36 Page 37 Page 38 Page 39 Page 40 Page 41 Page 42 Page 43 Page 44 Page 45 Page 46 Page 47 Page 48 Page 49 Page 50 Page 51 Page 52 Page 53 Page 54 Page 55 Page 56 Page 57 Page 58 Page 59 Page 60 Page 61 Page 62 Page 63 Page 64 Page 65 Page 66 Page 67 Page 68 Page 69 Page 70 Page 71 Page 72 Page 73 Page 74 Page 75 Page 76 Page 77 Page 78 Page 79 Page 80 Page 81 Page 82 Page 83 Page 84 Page 85 Page 86 Page 87 Page 88 Page 89 Page 90 Page 91 Page 92 Page 93 Page 94 Page 95 Page 96 Page 97 Page 98 Page 99 Page 100 Page 101 Page 102 Page 103 Page 104 Page 105 Page 106 Page 107 Page 108 Page 109 Page 110 Page 111 Page 112 Page 113 Page 114 Page 115 Page 116 Page 117 Page 118 Page 119 Page 120 Page 121 Page 122 Page 123 Page 124 Page 125 Page 126 Page 127 Page 128 Page 129 Page 130 Page 131 Page 132 Page 133 Page 134 Page 135 Page 136 Page 137 Page 138 Page 139 Page 140 Page 141 Page 142 Page 143 Page 144 Page 145 Page 146 Page 147 Page 148 Page 149 Page 150 Page 151 Page 152 Page 153 Page 154 Page 155 Page 156 Page 157 Page 158 Page 159 Page 160 Page 161 Page 162 Page 163 Page 164 Page 165 Page 166 Page 167 Page 168 Page 169 Page 170 Page 171 Page 172 Page 173 Page 174 Page 175 Page 176 Page 177 Page 178 Page 179 Page 180 Page 181 Page 182 Page 183 Page 184 Page 185 Page 186 Page 187 Page 188 Page 189 Page 190 Page 191 Page 192 Page 193 Page 194 Page 195 Page 196 Page 197 Page 198 Page 199 Page 200

Made with FlippingBook Online newsletter