العدد18

يبحث الكتاب معضلة الفراغ الاستراتيجي والتجزئة (1971- 2018)) فيما يقوم بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية من علاقات قبل إنشاء المجلس وبعد تأسيسه. كما يتناول مسارات التعاون والصراع في تلك العلاقات، وتطورها خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، ومطلع الألفية الثالثة، وكذلك العوامل المحلية والإقليمية والدولية التي أثَّرت وتؤثر فيها سلبيًّا أو إيجابيًّا. ويسعى الكتاب لمؤلفه، الدكتور محمد صالح المسفر، بصفة عامة إلى محاولة فهم العلاقات الخليجية-الخليجية وتقييمها في إطار التداخل بينها وبين السياسات الإقليمية والدولية ودراسة اتجاهاتها والبحث في مصير الدول الخليجية.

L U B A B ﻟﻠﺪراﺳﺎت اﻻﺳﺘﺮاﺗﯿﺠﯿﺔ

دورﯾﺔ ﻣﺤﮑﻤﺔ ﺗﺼﺪر ﻋﻦ ﻣﺮﮐﺰ اﻟﺠﺰﯾﺮة ﻟﻠﺪراﺳﺎت 2023 - ﻣﺎﯾﻮ/أﯾﺎر 18 اﻟﺴﻨﺔ اﻟﺨﺎﻣﺴﺔ - اﻟﻌﺪد

هﯿﺌﺔ اﻟﺘﺤﺮﯾﺮ د. ﻋﺰ اﻟﺪﯾﻦ ﻋﺒﺪ اﳌﻮﻟﯽ اﻟﻌﻨﻮد أﺣﻤﺪ آل ﺛﺎﻧﻲ د. ﻓﺎﻃﻤﺔ اﻟﺼﻤﺎدي د. ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺮاﺟﻲ د. ﺳﯿﺪي أﺣﻤﺪ وﻟﺪ اﻷﻣﯿﺮ د. ﺷﻔﯿﻖ ﺷﻘﯿﺮ د. ﻋـﺒﺪاﻟﻠﻪ اﻟﻌـﻤـﺎدي اﻟﺤﻮاس ﺗﻘﯿﺔ ﻣﺤﻤﺪ ﻋﺒﺪ اﻟﻌﺎﻃﻲ ﯾﺎرا اﻟﻨﺠﺎر أ.د. ﻟﻘﺎء ﻣﮑﻲ ﻣﺪﯾﺮ اﻟﺘﺤﺮﯾﺮ د. اﻟﺤﺎج ﻣﺤﻤﺪ اﻟﻨﺎﺳﻚ رﺋﯿﺲ اﻟﺘﺤﺮﯾﺮ د. ﻣﺤﻤﺪ اﳌﺨﺘﺎر اﻟﺨﻠﯿﻞ ﻧﺎﺋﺐ رﺋﯿﺲ اﻟﺘﺤﺮﯾﺮ

اﳌﺮاﺟﻊ اﻟﻠﻐﻮي إﺳﻼم ﻋﺒﺪ اﻟﺘﻮاب

دراسات وأبحاث

Studies and Research

Mohamed El-Moctar El-Shinqiti The Rising East and the Setting West: The Shift of the Global Powers and the Destinies of the Islamic World

محمد املختار الشنقيطي شروق الشرق وغروب الغرب: انزياحات القوى الدولية ومصائر العالم اإلسالمي 11

Fatima Alsmadi Migrant Communities in Turkey and Obstacles to Assimilation and Integration: An Ethnographic Study

فاطمة الصمادي املجتمعات املهاجرة يف تركيا: عقبات االستيعاب واالندماج

67

Hmida Ennaifer " Political Islam " in the emerging context Between Extinction and Historical Settlement

احميده النيفر يف السياق " اإلسالم السياسي " املستجد بين االندثار والتسوية التاريخية

111

Tarek Majzoub The Artificial Soldier and International Humanitarian Law: A Summary of Military and Legal Ideas

طارق املجذوب الجندي الصنعي وأسس القانون الدولي اإلنساني -خالصة أفكار عسكرية قانونية

133

Saied Nada The Future of Russian-African Relations after the War on Ukraine

سعيد ندا مستقبل العالقات الروسية-اإلفريقية بعد الحرب ىلع أوكرانيا

163

Nizar Lafraoui Chaos engineers Internet algorithms at the service of rising populism

نزار الفراوي مهندسو الفوضى خوارزميات اإلنترنت يف خدمة الشعبوية الصاعدة

203

5 |

افتتاحية العدد العالم اإلسالمي وسط المتغيرات الدولية

يتضمن العدد الجديد من مجلة لباب مسعى لبناء مقاربة لموقع العالم اإلسالمي في ظل المتغيرات العميقة وبعيدة األثر التي يفرضها التنافس أو حتى الصراع على مواقع القوة والهيمنة الدولية، الســيما الصــراع الحالي بين الواليات المتحدة والصين، أو بينها وبين روسيا، وما يبدو من تشكيل محاور استقطاب سياسية جديدة في العالم، قد تعيدنا إلى أيام الحرب الباردة. شروق الشرق وغروب الغرب، انزياحات القوى الدولية ومصائر " في دراسته المعمقة ، يخوض الدكتور محمد مختار الشنقيطي غمار هذا التحدي البحثي، " العالم اإلسالمي مستجليًا ظاهرة انزياح مركز الثِّقل في النظام الدولي، من الغرب األطلسي إلى الشرق اآلسيوي/األوراســي، من منظور الجغرافيا السياسية. وهي تضع هذا االنزياح ضمن ســياق الصراع التاريخي بين القوى البرية الكبرى والقوى البحرية الكبرى، ومعادلة العالقة بين القوة الصاعدة والقوة السائدة. كما تتلمَّس الدراسة موقع العالم اإلسالمي مــن هذا التحول في موازين القوى الدولية، داعية إلى شــحْذ العزائم لمواجهة هذا التحدي، بوعي سياسي، وحاسَّة إستراتيجية. المجتمعات " دراسة أخرى تضمنها العدد الجديد، للدكتور فاطمة الصمادي بعنوان ، وتدرس فيه الباحثة من خالل " المهاجــرة في تركيا: عقبات االســتيعاب واالندماج المنهــج اإلثنوغرافــي تجربة األفراد والمجتمعات المهاجــرة في تركيا بالتركيز على الجانب اإلنســاني والخصائص االجتماعية، وتتخذ من المجتمعات العربية المهاجرة إلى تركيا وكذلك مجتمع اإليرانيين ومجتمع األفغان مجتمعات لدراسة هذه القضية. موضــوع غالف هذا العدد كانت دراســة لألســتاذ الدكتور احميــدة النيفر عنوانها في السياق المستجد بين االندثار والتسوية التاريخية، وفيه يقدم " اإلســ م السياسي " من خالل طرح جملة من األسئلة، منها: " اإلسالم السياسي " مراجعة نقدية لحركات - لماذا انحسر خطاب الحركات اإلسالمية في الحقل السياسي بما أعجزها عن أي

| 6

تغيير للمجال التديني في أبعاده الفكرية والثقافية واالجتماعية وركَّز لديها قيم االمتثال بعيدًا عن التحرر والتجديد؟ - كيف تحجز الفاعليات اإلســ مية نفســها عن مراتع االستبداد والفوضى؟ وكيف تتجاوز سياسات استدراجها لتكون مطية مستهدَفة داخليًّا وخارجيًّا؟ - كيف ينتهي الفرز األيديولوجي المُنهِك للثورات العربية من أجل تجاوز سياســة فرض النظام الليبرالي للعولمة على اإلسالميين خاصة وعلى النظام العربي عامة؟ - أيــة رهانات وأية شــروط تحتاجها النخــب الصاعدة اليوم في نضالها المجدد إن أرادت فاعلية سياســية مدنية وطنية، لتقطع مــع حال المُخاطِب لذاته المُعرض عن واقعه الرافض لمكاسب عصره؟ تخرج بهم، على حد " تســوية تاريخية " ويخلص النيفر إلى دعوة (اإلســ ميين) إلى وصف الباحث، من حال التشــظي العام بما يواصل ســيرورتهم ضمن اإلسهام في تأسيس المشترك الذي يحرر الديني من سطوة الدولة بما يُعيد السياسة للعرب ويرأب الصدع االجتماعي واإلقليمي. وفي بحثه الموسوم (الجندي الصنعي وأسس القانون الدولي اإلنساني)، يقدم األستاذ الدكتور طارق المجذوب تصورات سياســية وعسكرية وقانونية حول ما بات يسمى بالمقاتــل الروبوت أو الجندي الصنعي (أي الجندي الذي يصنعه اإلنســان ليحاكي الســلوك البشري لجندي المشــاة من القوات النظامية) ومترادفاته وأنواعه، وعرض التساؤالت القانونية التي يطرحها استخدام هذا النمط من اآلالت القاتلة وإلى موقعها في اإلستراتيجيات العسكرية لبعض الدول العربية. وفي زاوية متابعات وقضايا، يتضمن العدد ورقة حول (مستقبل العالقات الروسية- اإلفريقيــة بعــد الحرب على أوكرانيا)، وفيه تفصيل لجــذور هذه العالقة وتطورها، والوســائل واألدوات التي اســتخدمتها روسيا في سبيل ذلك، ومدى استجابة الدول اإلفريقية لتلك للمســاعي الروسية، وكيف أثرت الحرب الروسية على أوكرانيا على العالقــات الروســية-اإلفريقية، بطريقة دفعت وســتدفع أكثر باتجــاه تمتين وتطوير العالقات الروسية-اإلفريقية، وتوسيع وتنويع مجاالتها. وفي زاوية قراءة في كتاب، اختير في هذا العدد كتاب (مهندسو الفوضى)، وهو كتاب

7 |

يتناول اآلليات التي تجري بها صناعة التيارات الشــعبوية في الغرب، وهيمنتها على السلطة في بعض البلدان، وفيه جرى استعراض رحلة الكاتب وهو الباحث والكاتب ، في دهاليز صناعة Giuliano da Empoli اإليطالي-السويسري، جيوليانو دا إمبولي هذا الزحف الشــعبوي الجديد الذي ال يتردد البعض في اعتباره استئنافًا، ولو بصيغ أخرى، لمراحل سياســية سابقة أثمرت التيارات اليمينية الفاشية والنازية التي دفعت بأوروبا والعالم إلى حرائق حرب عالمية مدمرة.

دراسات وأبحاث

شروق الشرق وغروب الغرب انزياحات القوى الدولية ومصائر العالم اإلسالمي

The Rising East and the Setting West: The Shift of the Global Powers and the Destinies of the Islamic World * Mohamed El - Moctar El - Shinqiti - محمد املختار الشنقيطي ملخص تتنـاول هـذه الدراسـة ظاهـرة انزيـاح مركـز الثِّقـل يف النظـام الدولـي مـن الغـرب األطلسـي إلـى الشـرق اآلسيوي/األوراسـي، مـن منظـور الجغرافيـا السياسـية. وهـي تضــع هــذا االنزيــاح ضمــن ســياق الصــراع التاريخــي بيــن القــوى البريــة الكبــرى والقـوى البحريـة الكبـرى، ومعادلـة العالقـة بيـن القـوة الصاعـدة والقـوة السـائدة. كمـا تتلمَّــس الدراسـة موقـع العالـم اإلسـ مي مـن هـذا التحـول يف موازيـن القـوى الدوليـة، داعيـة إلـى شـحْذ العزائـم ملواجهـة هـذا التحـدي بوعـي سياسـي وحاسَّــة إس ـتراتيجية. كلمات مفاتيح: الشرق والغرب، الجغرافيا السياسية، صعود الصين، أوراسيا، العالم اإلسالمي. Abstract : This is a geopolitical study of the shift in global power from the Atlantic West to the Asian / Eurasian East , within the context the historic clash between the great land powers and great sea powers , as well as the relationship between emerging and established powers . The study also explores the impact of this shift on the Islamic World , emphasizing the need to face this challenge with determination , political awareness and strategic sense . Keywords : East and West , Geopolitics , Rise of China , Eurasia , Islamic World .

د. محمد مختار الشنقيطي، أستاذ الشؤون الدولية المشارك، قسم الشؤون الدولية، جامعة قطر. * Dr . Mohamed El - Moctar El - Shinqiti , Associate Professor of International Affairs , Department of International Affairs , Qatar University .

13 |

مقدمة تتناول هذه الدراســة تجدُّد االنشــطار في النظام الدولي في العَقدين األخيرين، مع تركيز خاص على ما يفرضه هذا االنشطار الجديد من تحدِّيات على العالم اإلسالمي. وقد ذهبنا هنا إلى أن هذا االنشطار الدولي الجديد سيعمِّق انزياح القوة من الغرب األطلســي إلى الشرق اآلسيوي/األوراسي. ورغم أن هذه الظاهرة بدأت منذ عقود، وتســارعت منذ مطلع القرن الحادي والعشــرين مع النهضة االقتصادية في الصين، والصحــوة الدينية-القومية في روســيا، فإن حرب أوكرانيا الحالية ســتعجِّل بحركة التاريخ فيما يبدو، وســتزيد تســارع هذه الظاهرة الجديرة بالتأمل، التي سمَّيناها هنا . " شروق الشرق وغروب الغرب " ونحن ندين بهذا المصطلح البديع ألحد بُلَغاء اللغة العربية المعاصرين، هو الكاتب )، الذي استخدم هذا التعبير ضمن مقال 1968 - 1885 المصري، أحمد حسن الزيات ( دفاعًا عن فلســطين، ختَمه مهدِّدًا المســتعمر اإلنكليزي المتواطئ مع 1938 له عام وفلســطين كانت منذ أنشأها الله بالء على المعتدي، " االحتالل اليهودي لفلســطين: وشــؤمًا علــى الظالم. وقــد التقى عندها الغرب والشــرق مرَّة فــي عهد عمر [بن الخطــاب]، ومرة في عهد صالح الديــن [األيوبي]، فكانت العاقبة في كلتا المرَّتين ). وقد استخدم الزيات هذا التعبير المجازي ضمن 1 ( " غروب الغرب وشروق الشرق حديثه عن التدافعات الحضارية بين الشــرق اإلســ مي والغرب المســيحي، ونحن نستخدمه في سياق التدافعات والصراعات الحضارية الحالية. على أن المقصود بالشرق في عنوان هذه الدراسة ليس الشرق اإلسالمي الذي قصده الزيات في مقاله، بل الشرق اآلسيوي/األوراسي، خصوصًا الصيني منه، وال مشاحَّة في االصطالح. والسبب هو أن العالم اإلسالمي -بمنطق الجغرافيا السياسية- ليس جزءًا من الشــرق وال من الغرب، وإنما هو منطقة بيْنِيَّة وســيطة بين االثنين، وفضاء حضاري متميز له سماته الجيوستراتيجية الخاصة. وسنشرح مالمح الجغرافيا السياسية اإلسالمية فيما بعد. لقد انسكب الكثير من الحبر في األعوام األخيرة في الحديث عن صعود آسيا بشكل

| 14

عام، والصين بشكل خاص، إلى الصدارة العالمية، على حساب القوى الغربية السائدة، وفي الحديث عن االنبعاث اإلستراتيجي الروسي في عهد فالديمير بوتين، بعد أعوام ) وبوريس يلتسن 2022 - 1931 التخبط والوهَن في ظل حكم ميخائيل غورباتشوف ( ). ويمكن اعتبار النهضة الصينية والصحوة الروسية، في مواجهة النفوذ 2009 - 1931 ( األميركي واألوروبي، آخر تجليات الصراع التاريخي بين القوى البرية والقوى البحرية في العالم، ذلك الصراع الذي يسميه الفيلسوف السياسي الروسي، ألكسندر دوغين، .) 2 ( " الثنائية الجيوبولتيكية الخالدة " وقد كتب الدارســون المهتمون بهذا الشأن انطالقًا من خلفيات ودوفع شتى، فمنهم اآلســيوي المتحمِّس لدولة حضارية آســيوية جديدة، ومنهــم الغربي المتوجِّس من بتعبير جون مِيرْشايْمَر الذي سنعود إليه فيما بعد، ومنهم " العاصفة الصينية المتحفِّزة " المحايد الســاعي إلى صياغة أســس جديدة للتعايش الدولي. لكن جميعهم متفقون على أن صعود آســيا، وتصدُّر الصين للمشــهد العالمي، أمران آتيان ال محالة. على أن مجال اإلضافة في هذه الدراســة للجدل األكاديمي الغربي واآلســيوي في هذا الموضــوع هو تأثير هذا التحول العميق على العالم اإلســ مي، بمعناه الجغرافي- السياســي، منظورًا إليه هنا باعتباره حيِّزًا حضاريًّــا واحدًا، وامتدادًا جغرافيًّا متقاربًا، ووحدة تحليل يمكن النظر في مآالتها اإلستراتيجية ضمن سياق واحد. )، ال باعتبارها 3 والمنهج الذي نعتمده في هذه الدراسة هو منهج الجغرافيا السياسية( حقــ معرفيًّــا فقط، بل باعتبارها أيضًا منهجية خاصة لتحليل النظام الدولي، تحلي ًل يعتمــد العوامــل الجغرافية منطلَقًا له، على نحو ما نبَّه عليه عدد من علماء الجغرافيا ). فالجغرافيا هي أهم محدِّد من محددات السياسة، ألنها العنصر الثابت 4 السياسية( فــي الدولــة، والمعبِّر عن اطِّراد قوَّتها وضعْفها. وقــد عبَّر عن ذلك عالم الجغرافيا الجغرافيا السياســية هي أساسًــا " )، بالقول: 1993 - 1928 المصري، جمال حمدان ( العِلــم الذي يضع الدولة في إطارهــا الطبيعي الباقي، ويردُّها إلى أصولها الجغرافية ). كما عبَّر عنه المفكر اإلستراتيجي األميركي، نيكوالس سبيكمان 5 ( " الدائمة الوثيقة )، في قوله الذي دار على ألسنة المختصين في هذا الشأن، حتى أصبح 1943 - 1893 ( الوزراء يتغيَّرون، وحتى الديكتاتوريون يموتون، لكن سالسل الجبال " كالمثَل السائر: .) 6 ( " تظل راسخة

15 |

العالم اإلسالمي.. لكي يقوم " لقد الحظ مالك بن نبي منذ أكثر من سبعة عقود أن بدور مؤثر فعال في حركة التطور العالمي، ينبغي أن يَعْرِف العالم، وأن يَعْرِف نفسه، ). فعســى أن تســهم هذه الدراسة في تعريف العالم 7 ( " وأن يُعرِّف اآلخرين بنفســه اإلســ مي بنفســه وبالعالم، وأن تفتح بابًا للتأمل الجاد في اإلمكان المتاح للعالم اإلســ مي بين القوى الغربية المتشــبثة بمواقعها ونفوذها التاريخي، رغم أن قوتها في إدبار، والقوى الشــرقية المقبلة، المتحفزِّة إلى ملء الفراغ اإلســتراتيجي في هذه المنطقة، ووراثة النفوذ الغربي اآلفل فيها. فالعالم اإلسالمي في مسيس الحاجة إلى أفــكار واضحــة عن هذه المعادالت المتحولة في موازين القوى الدولية، لكي ينتقل من موقع المنفعل إلى موقع الفاعل. القوَّتان الصاعدة والسائدة ق.م.)، 400 - 460 منذ نحو ألفين وخمسمئة عام، كتب المؤرخ اليوناني، ثوسيديد ( عن أســباب الحرب بين إســبرطة وأثينا، وبعد أن شرح األسباب المباشرة للحرب، في رأيي أن السبب الحقيقي " قدَّم تفسيرًا أعمق لجذور األزمة بين الطرفين، فكتب: الــذي قــاد إلى الحــرب، وإن لم يكن معترَفًــا به علنًا، هو تصاعــد القوة األثينية، ). وقد صاغ المفكر السياسي األميركي، غراهام 8 ( " والخوف اإلسبرطي من تلك القوة " شِراك ثوسيديد " أليســون، من مقولة ثوســيديد نظرية في العالقات الدولية، سمَّاها ، تقــول بحتمية المواجهة بين القوة الصاعدة والقوة الســائدة، Thucydides ’ s Trap وطبَّقها على العالقات األميركية-الصينية، فذهب إلى أن مآل القوة الصينية الصاعدة والقوة األميركية السائدة هو الحرب بينهما، حتى وإن لم يكن ذلك برغبة أي منهما. والسبب في ذلك -كما يذهب أليسون- هو أن أميركا لن ترضى بصعود الصين، وأن الصين لن تتنازل عن طموحها إلى الهيمنة العالمية. فالمواجهة بين الصين والواليات المتحدة أمر حتمي وطبيعي في تقديره، وهو المآل الذي يزكِّيه استقراء التاريخ، حسب الحرب الحتمية: هل تستطيع الصين والواليات المتحدة رأيه. وقد ألَّف أليسون كتابه: لتســويغ هذه الفكرة وتســويقها، فبدأ الكتاب هذه البداية تفادي شــراك ثوســيديد؟ منذ مئتــي عام قال نابليون مُنذِرًا: (دَعُوا الصيــن تغط في نومها، فإنها " المتوعِّــدة: .) 9 ( " إذا اســتيقظت ستُزلْزِل العالم). وقد استيقظت الصين اآلن، وبدأ العالم يتزلزل

| 16

ثم قدَّم استقراء لست عشرة حالة من العالقات بين القوى الصاعدة والقوى السائدة خالل القرون الخمسة المنصرمة، فوجد أن اثنتي عشرة منها انتهت بالحرب. وقد ظهرت أطروحة أليســون ضمن جدل ســاخن بين المفكرين اإلستراتيجيين منذ عَقدين من الزمان حول مآالت العالقات بين الصين والواليات المتحدة. حيث ذهب عدد من المنظرين الغربيين إلى حتمية الحرب بين العمالقين الدوليين، وذهب عدد من المنظرين اآلســيويين إلى أن حالة التالقي وتحقيق المصالح المشــتركة هي التي ستسود بينهما، وأن ال مصلحة للصين في تحدي التوازن الدولي السائد، بينما رجَّح آخرون شيئًا من التنافس السلمي المنضبط الذي ال يصل درجة الحرب، وذهبوا إلى الصين يمكن أن تكون -بالتوازي- سندًا لبعض مكونات التوازن الدولي الحالي، " أن .) 10 ( " وتحديًا لمكوناته األخرى فمن القائلين بحتمية الصدام بين الصين والواليات المتحدة -إضافة إلى أليســون- منظِّر العالقات الدولية الشــهير، األســتاذ بجامعة شــيكاغو، جون ميرشايمر، الذي ســنُفيض في شــرح رأيه الحقًا. ومن النَّافين لكون الصين تهديدًا للواليات المتحدة عــدد من األكاديميين الصينييــن، الذين يلحُّون على أن الصِّدام ليس جزءًا من ثقافة .) 11 الصين التاريخية، ألنها ثقافة تُعلِي من قِيَم التعاون والسِّــلم والروح الجماعية( ومن اآلملين بالتعايش السلمي بين الطرفين، مع االقتناع بأن العالقات بينهما ستكون عالقة تنافس إستراتيجي، المفكر والدبلوماسي السنغافوري، كيشور محبوباني، الذي أفْردْنا له قســمًا من هذه الدراســة، والمفكر والسياســي األسترالي، كيفين رَادْ، وهو ). وسنتناول نماذج 12 ( الحرب التي يمكن تفاديها مؤلف كتاب عن الموضوع بعنوان: من هذا التنظير بتفصيل، ضمن سياقها المناسب من هذه الدراسة. لقد عرف التاريخ البشــري منذ آالف الســنين صراعًا دائمًا بين القوى البرية الكبرى والقوى البحرية الكبرى، بدوافع مادية ومعنوية كثيرة، وحدد هذا الصراع مصائر العديد من الشعوب والحضارات. وقدَّم اآلباء المؤسسون لعلم الجغرافيا السياسية المعاصرة نظريات مهمة، تحولت مفاتيح تحليلية في هذا المضمار. ومن هذه النظريات نظرية ،) 1947 - 1861 التي صاغها البريطاني، هالفورد ماكيندر ( Heartland " قلب األرض " . وخالصتها أن أهم منطقة 1919 الصادر عام الـــمُثُل والوقائع الديمقراطية في كتابه ، وهي تطابق مساحة االتحاد " قلب األرض " في العالم هي منطقة أوراسيا التي دعاها

17 |

السوفيتي السابق تقريبًا، ومفتاحها السيطرة على أوروبا الشرقية. وذهب ماكيندر إلى أن من ســيطر على تلك المنطقة انفتحت أمامه أبواب الســيطرة على العالم، فصاغ معادلته الشهيرة في جمل ثالث:

o من حكَم أوروبا الرشقية فقد حتكَّم يف قلب األرض. " o ومن حتكَّم يف قلب األرض، فقد حتكَّم يف اجلزيرة العاملية. o .) 13 ( " ومن حتكَّم يف اجلزيرة العاملية فقد سيطر عىل العامل

،) 1914 - 1840 سابقة في كتابات األميركي، ألفريد ماهان ( " قلب األرض " ولنظرية ). لكن المفكر اإلســتراتيجي األميركــي، نيكوالس 14 ( " اللُّــب األوراســي " عــن ســبيكمان، سرعان ما تعقَّب ماكيندر، واعتبر معادالتِه خاطئة تمامًا؛ إذ توصَّل إلى الذي أشاد به ماكيندر، " قلب األرض " أن أهم منطقة إســتراتيجية في العالم ليست المحيطة بذلك القلب، وهي تشمل الهالل الممتد من Rimland " حافة األرض " بل شــمال غرب أوروبا، مرورًا بالشرق األوسط، وصو ًل إلى جنوب شرق آسيا. وقد صاغ سبيكمان رؤيته في معادلة جديدة من جملتين اثنتين، هما: o من حكَم حافة األرض فقد حتكَّم يف أوراسيا. " o .) 15 ( " ومن حتكَّم يف أوراسيا فقد سيطر عىل مصائر العامل عند ســبيكمان نبعت إســتراتيجية االحتــواء األميركية " حافة األرض " ومــن فكــرة للقوتيْن الشــيوعيتيْن العُظمييْن في القرن العشرين: االتحاد السوفيتي والصين. وهي ---) وزبيغنيو بريجنسكي 1923 اإلســتراتيجية التي غذَّاها كل من هنري كيســنجر ( ) بأفكارهمــا، واعتبرها بريجنســكي -بحقٍّ- امتدادًا للصراع التاريخي 2017 - 1928 ( .) 16 العتيق بين القوى البرية والقوى البحرية( علــى أن مــا يهمنا أكثر في هذه الدراســة هو ما انتبه إليــه ونبَّه عليه جمال حمدان وآخــرون مــن أن القوى البرية الكبرى والقوى البحريــة الكبرى كثيرًا ما تجعل من منطقة العالم اإلسالمي الحالية -خصوصًا قلبها الشرق أوسطي- ساحة حرب، بحكم تحاول كل من قوة البر والبحر االستيالء على المنطقة " توسُّطها بين الطرفين؛ حيث .) 17 ( " البيْنية في الشرق األوسط فحدوده ترســم على " والســبب في ذلك هو أن العالم اإلســ مي منطقة وسِــيطة؛

| 18

الخريطة في الواقع قارة حقيقية هي (القارة الوســيطة) كما ســماها من قبل نابليون، ). وهي تُغري ك ّل من قوى البر وقوى البحر، وتجذب 18 ( " رجل الفكر اإلستراتيجي كل األمــم التــي تتصدر التاريخ العالمي، بحكم موقعها اإلســتراتيجي المتميز. وقد أصبحت هذه المناطق البَيْنيَّة... منطقة صراع، وأرض " عبَّــر حمدان عن ذلك بقوله: معركة، بين الطرفين القُطبيَّيْن. أصبحت محصورة بين شِقَّي الرَّحَى، تتنازعها هذه مرة وتلك أخرى، واتضحت حساسية موقعها اإلستراتيجي في هذا اإلطار. وال تتمثل هذه الخاصية ]في أي منطقة[ كما تتمثل في منطقة الشــرق األوســط بحكم وقوعها بين .) 19 ( " فارس ووسط آسيا في جانب، وروما في جانب آخر لقد تواتر الصراع التاريخي بين القوى البرية الكبرى والقوى البحرية الكبرى في هذه المنطقة وعليها، ابتداء من الصراع الروماني الفارســي قبل اإلســ م، مرورًا بالصراع بين العرب المسلمين واألوروبيين المسيحيين، ثم بين الترك المسلمين واألوروبيين المســيحيين. وفي العصور الحديثة تجدد الصراع على المنطقة بين اإلمبراطوريتين، البريطانية والروســية، في القرن التاســع عشــر، ثم بين الواليات المتحدة واالتحاد والســوفيتي في القرن العشــرين. ويبدو أن الصراع الجديد على المنطقة بين الصين و(حليفتها روســيا) وأميركا (وحلفائها األوروبيين) ســيكون مَعْلمًا من معالم القرن الحادي والعشرين. وربما يشبه هذا الصراع اليوم تَوازِي العاصفة المغولية التي هبَّت على العالم اإلســ مي من الشــرق مع االختراقات الصليبية لقلبه من الغرب، خالل القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميالديين. وكمــا الحــظ حمدان، فإن تواتر الصراع بين قوى البر وقوى البحر في هذه المنطقة وعليها طبع تاريخها بطابع خاص، وجعل الوعي اإلســتراتيجي بموقع هذه المنطقة النتيجة " علــى الســاحة العالمية، وإدراك أهميتها ألهلها ولآلخرين، أمــرًا متعيِّنًا؛ إذ المهمة التي يمكن أن نخرج بها من هذه الصورة المتواترة في الصراع بين قوى البر قد أصبحت والبحر هي أنها، وقد تضخَّمت وتطاولت أذرعتها إلى أبعاد شِبْه قارِّية، .) 20 ( " ، وواعية بإستراتيجية الموقع حساســة بالنســبة للمواقع البينية التي تفصل بينها وغاية هذه الدراســة هي توســيع مساحة الوعي بالموقع لدى أبناء هذه المنطقة، في لحظة تحوُّل في النظام الدولي يتحفَّز الجميع القتناص فرصها، واجتناب مخاطرها.

19 |

قبول ما ليس منه بد ينطلق المفكر والدبلوماسي السنغافوري، كيشور محبوباني، من موقع التحيز الصريح للهوية اآلسيوية والقوة اآلسيوية، وإن كان ذلك ال يطعن في عمق تحليالته السياسية، ونفاذ بصيرته اإلستراتيجية، فهو مفكر بارع، ودبلوماسي حصيف. وقد كتب محبوباني عدة كتب عن صعود آسيا والصين، منها: - ؛) 21 وهو مرتجم إىل العربية( نصف العامَل اآلسيوي اجلديد، - هــل فــازت الصــن؟ ؛ القــرن احلــادي والعــرون اآلســيوي التحــدي الصينــي للهيمنــة األمريكيــة؛ - هل خر ِس الغرب؟ أطروحة استفزازية؛ - .) 22 ( هل يستطيع اآلسيويون التفكري؟ وتتــردد أطروحــات محبوباني عــن التراجع الغربي والصعود اآلســيوي (خصوصًا الصيني) في كتبه كلها. لذلك ســنكتفي برســم خطوطها العريضة، بقدر ما يســمح علــى مدار القرون الثالثة الماضية، كانت " المقام والمســاحة. يالحظ محبوباني أنه شــعوب آســيا وإفريقيا وأميركا الالتينية مواد للتاريخ العالمي، وكانت القرارات التي شكَّلت التاريخ تُتَّخذ في بضع عواصم غربية...، أما اآلن فإن بقية شعوب العالم... .) 23 ( " لن تقبل أن يتم اتخاذ القرارات نيابة عنها في العواصم الغربية " العالم اليوم يقف على أحد أهم مفترقات الطرق في تاريخه " ويجادل محبوباني بأن نبتعد عن تلــك اللحظة الوجيزة التي هيمن فيهــا الغرب على التاريخ " بحكــم أننــا صحوة الحضارات والمجتمعات التي كانت في " ). فالعالم يعيش اليوم 24 ( " العالمي ). وهو يلح على أن اإلنســان اآلسيوي 25 ، حســب تعبيره( " حالة هجوع مدة مديدة -على وجه الخصوص- قد انتقل من طور المنفعل السلبي بالمبادرات الغربية، إلى طور الفاعل المشــارك في صناعة تاريخ العالم المعاصر. وقد تجلى هذا األمر في الصين أكثر من غيرها خالل العقود األربعة الماضية؛ حيث اســتعاد الصينيون الثقة في حضارتهم واحترام ذاتهم. وينصح محبوباني الغرب بقبول ما ليس منه بدٌّ، وهو -في نظره- التسليم بأن الصدارة الغربية للعالم قد أصبحت من الماضي، وأن القوة اآلسيوية الصاعدة هي التي ستحدِّد

| 20

مصائر البشــر في المستقبل. وهو يتبنى الرؤية الصينية والروسية الساعية إلى تفكيك الحلف األطلسي، وفصْل الضفة األوروبية من المحيط األطلسي عن الضفة األميركية. علمًــا بأن روســيا والصين تحاوالن تحقيق هذه الغايــة بطرائق مختلفة. ففي التنظير اإلستراتيجي الروسي -الذي يعبِّر عنه دوغين- يأتي هذا المسعى في صيغة تصادمية فاقعة، بينما يسعى الصينيون إلى تحقيق ذلك االنفكاك بين أوروبا والواليات المتحدة بطريقة ناعمة، من خالل تشجيع األوروبيين على االعتماد على الذات، وبناء هويتهم اإلســتراتيجية المســتقلة عن المظلة األميركية. وقد عبَّر محبوباني عن الرؤية الصينية -كعادته- فنصح األوروبيين بالحياد في التعاطي مع التنافس الصيني-األميركي، قائ ًلً: إن أفضل ما تفعله أوروبا هو أن تكون فاع ًل مستق ّلًّ: إذا كنت كبيرًا بما فيه الكفاية، " .) 26 ( " فلست بحاجة إلى الدوران في فلَك طرف آخر وقدَّم محبوباني النصيحة ذاتها ألستراليا، التي هي امتداد حضاري غربي في المحيط الهــادئ، يــكاد يالمس القارة اآلســيوية، وقد انضمت في األعــوام األخيرة لحلف ). فقد نصح محبوباني AUKUS ( " أوكوس " أنكلوساكســوني معاد للصين هو حلف أســتراليا باالعتراف بالبيئة اآلســيوية التي تنتمي إليها مكانًا، بدل المراهنة على القوة األميركية البعيدة، تأسِّــيًا بدول أميركا الجنوبية في تكيُّفها مع قوة جارتها الشــمالية في حالة أستراليا، نصيحتي هي أنه بما أن أستراليا " القوية، الواليات المتحدة: فقال: .) 27 ( " محاطة بأربعة مليارات آسيوي، فعليها التكيف مع هذه الحقيقة ويبقى التحدي األساســي بالنسبة لمصائر النظام الدولي والسِّلم العالمي هو مستوى قبول الغرب للصعود اآلســيوي عمومًا، والصيني خصوصًا؛ حيث يذهب محبوباني )، رغم أنه 28 ( " قد شــعرت باالضطراب مع نهوض دول آسيا " إلى أن الدول الغربية % من سكان العالم أنهم يمكنكم أن يقرروا مصائر 12 من غير المجدي أن يتصور " % من سكان العالم. وحتى اآلن ترغب األغلبية في العمل 88 النسبة الباقية التي تمثل مع الغرب. ومع ذلك فإذا ما حاول الغرب أن يستمر في سيطرته، فسيكون هناك رد فعل عنيف لن يمكن تجنبه. هذا هو الســبب في وقوف البشــرية عند مفترق طريق .) 29 ( " حاسم للتاريخ ورغــم أن محبوبانــي ليس معاديًا للغرب عداء أيديولوجيًّا -على غرار دوغين مث ًلً- فإن نصيحته للغرب بالتســليم تنطوي على تهديد ضمني بأن أي مسعى في التصدي

21 |

لصعود آســيا عمومًا، والصين خصوصًا، ســينتهي بالغرب خاســرًا مكانته الدولية، ومنكفئًا على نفسه. وقد قدَّم دوغين نصيحة مشابهة ألوروبا بأن تكون أكثر من مجرد ). ومن الواضح 30 رأس جســر أميركي، وميَّز بين حافتها األطلســية وقلبها القارِّي( أن نصيحة محبوباني للغرب بالتســليم لصعود آســيا، وألوروبا بالتحرر من المظلة اإلســتراتيجية األميركية، وألستراليا بالتكيف مع محيطها اآلسيوي، ليست بريئة، وال هي مدفوعة بدوافع الســلم والتعايش فقط، وإنما لها مآرب أخرى، أهمها تســهيل الصعود اآلسيوي عمومًا، والصيني خصوصًا، دون عوائق. إنه منطق القوى الصاعدة، التي تســعى إلى طمأنة القوى الســائدة، حرصًا على التمكُّن بأقل ثمن مُمْكِن. لكن الغرب الذي اعتاد التصدُّر ال يســتمع لهذه النصائح كثيرًا، وهو لن يرضى بالمقاعد الخلفية دون مواجهات ومدافعات على الراجح، كما ســنرى في التوجس األميركي من صعود الصين في الفقرة التالية من هذه الدراسة. وقد اهتم محبوباني اهتمامًا إيجابيًّا بالعالم اإلسالمي، باعتباره -في نظره- جزءًا من القوة اآلســيوية، بعيدًا عن نوازع التعصب التي تظهر لدى بعض المثقفين اآلسيويين غير المســلمين أحيانًا، وهذا مما يُحسَــب له. فآســيا التي يبشر محبوباني بصعودها إلى الصدارة العالمية تتألف من ثالثة مكونات أساســية، هي: الصين والهند والعالم اإلســ مي. وهو يركز على الشــطر اآلسيوي من العالم اإلسالمي، وهذا أمر مفهوم ألسباب أيديولوجية وإستراتيجية، فض ًل عن أن الشق اآلسيوي من العالم اإلسالمي هو مركز ثقله البشري والجغرافي. بيــد أننا نتحفــظ على اعتبار محبوباني العالم اإلســ مي مجرد مكون من مكونات الظاهرة اآلسيوية، ونرى ضرورة اعتبار العالم اإلسالمي حيِّزًا حضاريًّا واحدًا، وكتلة جيوستراتيجية متميزة عن غيرها، دون أن ينفي ذلك تداخله مع العالم اآلسيوي حيث يتمدد جناحه الشرقي، أو تداخلَه مع العالم اإلفريقي حيث يتمدد جناحه الغربي، كما ســنبيِّنه الحقًا. فالعالم اإلســ مي أكبر من جناحه اآلسيوي، ومن جناحه اإلفريقي، حتى وإن كان بينه وبين كل من هذين الحيِّزين الجغرافيَّين عموم وخصوصٌ. ويجب التذكير في هذا الســياق بأن عددًا من المثقفين المســلمين اآلسيويين سبقوا . ومنهم المفكر والسياسي الماليزي، النهضة اآلســيوية محبوباني إلى التبشــير بفجر ). كما أن 31 أنــور إبراهيــم، الذي أصدر كتابًا بهذا العنوان منذ أكثــر من ربع قرن(

| 22

تمايز العالم اإلسالمي عن الهوية اآلسيوية إشكال قديم، نجد صداه منذ نحو قرن في )، والزعيم الهندي، 1938 - 1877 الخالف السياسي بين شاعر اإلسالم، محمد إقبال ( )، رغم االحترام الشــخصي العميق بينهما. فقد أصر 1948 - 1869 ماهاتمــا غاندي ( غاندي على جعل الهوية القومية الهندية أســاس االجتماع السياســي في الهند، بينما آمن إقبال بأن العقيدة والثقافة أهم لالجتماع السياســي الســليم من الرابطة القومية، وتوصَّل إلى أن الفجوة الثقافية بين المسلمين والهندوس تجعل من األسلم للطرفين ، " الله آباد " ). فكان خطابه الشهير في مدينة 32 أن يعيشا في كيانين سياسيين منفصلين( ، الذي يعتبره المؤرخون وثيقة الميالد لجمهورية باكستان اإلسالمية. 1930 عام فرغم أن محبوباني ال ينطلق من أرضية التحيز ضد العالم اإلســ مي، وأن إدراجه إيَّاه ضمن المنظومة اآلسيوية صادر عن موقف متعاطف، فإن الثمرة العملية المترتبة علــى تحليله هنا تلتقي -بحســن نية- مع الثمــرة العملية التي انتهى إليها المنظِّرون الغربيون بســوء نية. وهم الذين اعتبروا العالم اإلســ مي مجرد ساحة لحروبهم، أو أداة لترسيخ قوتهم، ال كيانًا حضاريًّا مترابطًا، ومجا ًل جيوستراتيجيًّا واحدًا، له ماهيته وهويته ومطامحه على الساحة الدولية. وسنستعرض الحقًا نظريات هؤالء المنظرين الغربيين وموقع العالم اإلسالمي في كل منها. منطق الواقعية الهجومية وفي مقابل هذا الخطاب السياســي الســاعي إلى الكفْكَفة من مخاوف الغرب، الذي نجده عند محبوباني وعدد من األكاديميين الصينيين، يوجد خطاب آخر متوجِّس من الصعود الصيني، إذ يراه نذير شــؤم على القوة الغربية عمومًا، واألميركية خصوصًا. وليــس الخوف الغربي من صعــود الصين باألمر الجديد، فقد أوردنا من قبل مقولة ) في مطلع القرن التاســع عشــر، التي يحذِّر فيها من 1821 - 1769 نابليون بونابرت ( يقظــة الصيــن. كما ظهر التوجس من صعود الصين في مطلع القرن العشــرين لدى منظِّر الجغرافيا السياسية البريطاني، هالفورد ماكيندر، وبنبرة عنصرية فجَّة؛ حيث حذر المحور الجغرافي " الصيني في خطابه الشــهير: " الخطر األصفر " ماكينــدر مما دعاه ، وتحول 1904 مطلع العام " الجمعية الملكية الجغرافية " ) الذي ألقاه أمام 33 ( " للتاريخ نصًّا تأسيسيًّا في علم الجغرافيا السياسية. لكن تلك التحذيرات المبكِّرة، الصادرة عن

23 |

رجــال من أمثال نابليــون وماكيندر، كانت مبنية على افتراضات ال أكثر، إذ لم تكن الصين يومذاك قوة يُحســب لها حســاب جديٌّ. لذلك فإن ما يهمنا هنا هو التوجس الغربي الحالي من القوة الصينية الصاعدة، بعد أن أصبح هذا الصعود واقعا مَعيشًا. وســنأخذ أحد أبــرز المنظرين األميركيين لعلم العالقــات الدولية في عصرنا، وهو األستاذ بجامعة شيكاغو، جون ميرشايمر، مثاًل على هذا المنحى من التفكير. اشــتهر جون ميرشــايمر بأنه أحد أبرز المدافعين عن المدرسة الواقعية في العالقات الدولية. وهو معروف بعدد من النظريات المشتقة من تلك المدرسة، أهمها لموضوعنا ) التي تقضي بأن أي قوة عظمى تســعى بطبيعتها 34 ( " الواقعية الهجومية " هنــا نظرية إلى تحصيل أعظم قدر من القوة على حساب القوى العظمى األخرى، وبأن العالم في حال تعدُّد األقطاب القوية أقرب إلى اندالع الحرب منه في حال القطب الواحد ، مأساة سياسة القوى العظمى المهيمن. وتطبيقًا لهذه النظرية، ذهب ميرشايمر في كتابه ستترجم على الراجح قوتها االقتصادية " الصادر منذ أكثر من عَقدين، إلى أن الصين ). وهذا أمر لن 35 ( " إلى قوة عسكرية، ثم تسعى إلى الهيمنة على جنوب شرق آسيا الصين والواليات المتحدة محكوم " تقبلــه الواليات المتحدة في رأيه، ولذلك فــإن .) 36 ( " عليهما بأن يكونا خصمين مع تعاظم القوة الصينية وال يزال ميرشــايمر مدافعًا عن هذا المنحى من التحليل في كتاباته المتأخرة، وفي فأضاف إلى طبعته 2001 محاضراته الوافرة، حتى اليوم. فقد وسَّع كتابه الصادر عام هل يمكن أن تتصَّدر الصين " ، فصًل ختاميًّا بعنوان: 2014 الموسَّــعة، الصادرة عام ). كما نشر أكثر من مقال أكاديمي ومقال رأي دفاعًا عن هذه األطروحة، 37 ( " سلميًّا؟ العاصفة المتحفِّزة: " بعنوان: المجلة الصينية للسياسة الدولية أهمها بحث منشور في .) 38 ( " تحدِّي الصين للقوة األميركية في آسيا إن مفتاح الهيمنة الدولية من منظور الواقعية الهجومية التي يؤمن بها ميرشــايمر هو أن تتمكن دولة كبرى من الهيمنة على إقليمها أوًَّلً، ثم تَحْرِم الدول القوية األخرى ألســباب " من الهيمنة على أقاليمها الخاصة. ويرى ميرشــايمر أن الواليات المتحدة ) قضت القرن األول من عمرها، وهو القرن التاسع عشر، في 39 ( " إستراتيجية وجيهة الســعي الحتكار الســيطرة في محيطها اإلقليمي، وطرد القوى األوروبية (البريطانية واإلســبانية والفرنســية) من القارة األميركية. فلما تحققت لها الهيمنة اإلقليمية في

| 24

) قضت القرن الثاني من 40 (- " عقيــدة مونرو " القــارة األميركية -طِبقًا لما عُرف بـــ عمرها، وهو القرن العشرون، في السعي إلى حرمان أي دولة أخرى من الهيمنة في أي إقليم آخر من أقاليم العالم، سواء اليابان اإلمبراطورية، أو ألمانيا النازية، أو روسيا السوفيتية. وقد نجحت في الحالتين خالل هذين القرنين، حسب تحليل ميرشايمر. االقتداء بالعم " ويذهب ميرشــايمر إلى أن ما ســتفعله الصين بعد تصاعد قوتها هو )، أي انتهاج نفس النهج اإلستراتيجي الذي سبقتها إليه الواليات المتحدة في 41 ( " سام القرن التاسع عشر، فالصين تسعى اليوم إلى الهيمنة على إقليمها، خصوصًا سواحل المحيط الهادئ اآلسيوية، وزيادة فجوة القوة بينها وبين جيرانها اإلقليميين األقوياء: )، كما 42 ( " رسْم حدود السلوك المقبول من طرف جيرانها " الهند واليابان وروسيا، ثم فعلت الواليات المتحدة في جوارها من قبل، واالجتهاد في إضعاف هؤالء الجيران، كما حرصت الواليات المتحدة على إضعاف جارتيها اإلقليميتين، كندا والمكسيك. الخاصة بها، كما يرى ميرشايمر. " عقيدة مونرو " وبالمجمل، فإن الصين ستكون لها لكنهــا لن تحقق مقتضيات تلك العقيدة اإلســتراتيجية، وهــي الهيمنة اإلقليمية، إال الذي يؤمن " الواقعية الهجومية " بعد مواجهة شــاملة مع الواليات المتحــدة. فمنطق به ميرشايمر يستلزم حرمان الواليات المتحدة الصين من الهيمنة اإلقليمية في شرق آسيا، ما استطاعت إلى ذلك سبي ًلً. وهكذا سيؤول األمر إلى وقوع هذين العمالقين ، ونشوب حرب إستراتيجية باردة أو ساخنة بينهما، طبقًا لمعادلة " شراك ثوسيديد " في الصــراع المعتــاد بين القوة الصاعدة والقوة الســائدة. ويتفق المفكر اإلســتراتيجي القــوة االقتصادية الصينية -التي " األميركــي، روبرت كابالن، مع ميرشــايمر في أن تترافق على نحو متزايد مع القوة العســكرية- ســتؤدي إلى درجة محورية من التوتر الواليات المتحدة بوصفها قوة " )، وأن من أسباب ذلك أن 43 ( " خالل السنوات المقبلة إقليمية مهيمنة في نصف العالم الغربي، سوف تسعى إلى منع الصين من أن تصبح .) 44 ( " قوة إقليمية مهيمنة على جزء كبير من نصف العالم الشرقي وتبــدو لنا نظرية ميرشــايمر في الواقعيــة الهجومية وصفًا أمينًــا لقرنين من صعود الواليات المتحدة، من مســتعمرة أوروبية صغيرة متحصِّنة وراء المحيطين األطلسي والهادئ، إلى قوة عالمية مهيمنة على العالم. لكن هذه النظرية قد ال تصلح بالضرورة لتفســير المسار التي ستتَّبعه النهضة الصينية، أو الصحوة الروسية، أو صعود أي قوة

25 |

دولية أخرى في المســتقبل، بما فيها الكتلة اإلســ مية. ولعل بعض القوى الصاعدة الواقعية " ، بدل " واقعية دفاعية " الجديدة تستخلص العبرة من التاريخ األميركي، فتتبنى التي سادت في التاريخ األميركي. فإصرار ميرشايمر على قراءة مسار كل " الهجومية قوة صاعدة جديدة بعيون التاريخ األميركي يحتاج التعامل معه بتحفظ، إذ قد يكون مجرد أثر من آثار المركزية الثقافية األميركية. ومما يهم مقاصد دراستنا هذه، مكانة العالم اإلسالمي في الصراع اآلتي بين الصين والواليــات المتحدة. وهنا يزودنا ميرشــايمر ببعض المالحظــات الثمينة، فهو يعتبر العالم اإلسالمي جزءًا من ساحة الصراع بين الشرق والغرب. حيث يذهب ميرشايمر إلى أن الصراع اآلتي بين الصين والواليات المتحدة لن يتوقف عند سواحل المحيط الهادئ، مثل مشكلة تايوان، وبحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي. بل سيتمدد إلى مناطق أخرى تتزاحم فيها مصالح الدولتين ومطامحهما، ومنها مناطق مهمة من العالم اإلســ مي، مثل منطقة جنوب شرق آسيا، وإقليم الشرق األوسط، وخصوصًا سواحل الخليج، وقد كتب عن ذلك يقول: نظرًا العتماد الصين على نفط الخليج، فمن الراجح أنها ستتنافس مع الواليات " المتحدة على النفوذ في هذه المنطقة ذات األهمية اإلستراتيجية، بنفس المنحى . وليس اجتياح الصين للشــرق األوسط التي نحاه االتحاد الســوفيتي من قبل باألمــر المرجَّــح، ألنه بعيد عــن الصين، وألن الواليات المتحدة ستســعى ولكن من الراجح أن الصين ستؤســس لحضور إلفشــال هذا الهجوم يقينًا. عســكري دائم في المنطقة إذا اســتعان بها حليف مقرَّب. على سبيل المثال من الممكن تصور إيران والصين وقد رسَّــخا العالقات بينهما، ثم إذا بإيران . وباختصار، فإذا كان األميركيون تطالب باســتقرار قوات صينية على أرضها فإن الصين والســوفيت قد تنافســوا بقوة في أوروبا وآسيا والشرق األوسط، .) 45 ( " والواليات المتحدة ستتنافسان غالبًا في آسيا والشرق األوسط فقط بين " الشراكة اإلستراتيجية الشاملة " باتفاقية 2010 وكأنما يتنبأ ميرشايمر هنا منذ العام ، وتضمنت التعاون اإلستراتيجي لمدة 2021 الصين وإيران، التي وقَّعتها الدولتان عام ). وقد توقع ميرشايمر أيضًا 46 ربع قرن في كل المجاالت، بما فيها المجال العسكري( ) ضمن جبهات 47 ( " الخطوط البحرية الرابطة بين الصين والشرق األوسط " أن تكون

| 26

المواجهــة بين الواليات المتحدة والصين، خصوصًا مضيق مَلَقَة الفاصل بين ماليزيا وإندونيســيا وســنغافورة، وهو شريان الحياة بالنسبة للتجارة الدولية الصينية، ولذلك ). إن 48 ( " معضلة ملَقَة " يتحدث المنظِّرون اإلســتراتيجيون الصينيون على الدوام عن المالحظات الثمينة من ميرشــايمر تقرِّبنا أكثر من قلب الجغرافيا السياسية اإلسالمية التــي ســنتحدث عنها بتفصيل، لكــن بعد التعريج على مكان روســيا ومكانتها في االنزياحات الجديدة للقوى الدولية. صحوة روسيا األوارسية ، أعلن ميخائيل غورباتشــوف اســتقالته من 1991 يناير/كانون الثاني 25 فــي يــوم رئاســة االتحاد الســوفيتي، وأُنزل العلَم األحمر من فوق مبنى الكرملين، في إعالن رســمي لوفاة الدولة السوفيتية، التي أقضَّت مضاجع الغرب لسبعة عقود، بالخصومة عامًا) بمعايير 60 األيديولوجية، والتحدِّي اإلستراتيجي. كان غورباتشوف يومها شابًّا ( الشــيخوخة السياسية السائدة في القيادة الســوفيتية؛ حيث رحل قبله عدد من القادة الشيوعيين الهَرِمين الذين كانوا يتربَّعون على هرَم السلطة في موسكو، ومنهم ليونيد )، وقســطنطين تشرنينكو 1984 - 1914 )، ويوري أندروبوف ( 1982 - 1906 بريجنيف ( ). وقد مكث كل من األخيريْن في الســلطة عامًا واحدًا فقط قبل أن 1985 - 1911 ( يتخطَّفه الموت. وكان غورباتشوف مثاليًّا حالمًا، مع شيء من السذاجة السياسية في نظرته إلى الغرب. فقد تصوَّر أن االتحاد الســوفيتي ســيصبح دولة أوروبية بدون اعتراض من القوى الغربيــة، خصوصًا الواليات المتحدة الغريم التقليدي للروس الذي تســتظل أوروبا بمظلته اإلســتراتيجية منذ ختام الحرب العالمية الثانية. فقد كتب غورباتشــوف في -الذي ضمَّنه مراجعاتِه األيديولوجية ورؤيته المســتقبلة- هذا البيريســترويكا كتابــه النص المعبِّر عما كان يختلج في نفسه من أحالم تكشَّفت فيما بعد عن أوهام: يحاول البعض أن يســتبعد االتحاد الســوفيتي من أوروبا. ومن حين آلخر، " وكمــا لــو كان عن غير قصد، يســاوون مفهومي أوروبــا وأوروبا الغربية. مثــل هذه األالعيب ال يمكنها أن تغيــر الحقائق التاريخية ومــع ذلك، فإن إن عالقات روسيا الثقافية والتجارية والسياسية مع شعوب أوروبا والجغرافية.

27 |

ونحن أوروبيون. لقد كانت . جذور عميقة في التاريخ ودولهــا األخــرى لها المســيحية توحِّد روســيا القديمة مع أوروبا، وسوف نحتفل في العام القادم ) بمرور ألف عام على دخول المسيحية أرض أسالفنا. وتاريخ روسيا 1988 ( . لقد أسهم الروس، واألوكرانيون، هو جزء عضوي من تاريخ أوروبا العظيم والبيلوروسيون، والمولدافيون، والليثيون، واألستونيون، والكاريليون، وغيرهم من شعوب بالدنا [السوفيتية]، إسهامًا ذا شأن في تطور الحضارة األوروبية. .) 49 ( " ولذلك فإنهم يعتبرون أنفسهم ورثتَها الشرعيين من العسير أن نجد نصًّا أبلغ تعبيرًا عن التحول األيديولوجي الذي كان يعيشه االتحاد السوفيتي في ختام الثمانينات من هذا النص. فغورباتشوف الذي كان ال يزال يومها رئيسًــا لالتحاد الســوفيتي، وأمينًا عامًّا للحزب الشــيوعي السوفيتي، يكتب هنا عن اإلرث الديني والتاريخي المشــترك بين روسيا وخصومها األوروبيين، ويعتز بالهوية المسيحية لروسيا، ويراهن على أنها ستصبح دولة أوروبية. وقد كرر غورباتشوف في ) الذي يتَّسع لروسيا، ولدول 50 ( " البيت األوروبي المشترك " كتابه اإللحاح على مفهوم أوروبا الشرقية، التي كانت جزءًا من االتحاد السوفيتي أو دائرة في فلكه. كما دعا إلى ) وهو يقصد في المقام األول الحلفيْن المهيمنيْن 51 ( " حل كافة األحالف العسكرية " على الفضاء األوروبي، حلف الناتو وحلف وارسو. لكن ما لم يدركه غورباتشوف -لسذاجته السياسية- هو أن القوة األميركية، الممسكة بالقرار اإلستراتيجي األوروبي منذ خواتيم الحرب العالمية الثانية، لن تسمح بتحول روسيا إلى دولة أوروبية، مهما يكن منطق التاريخ والجغرافيا. ألن انضمام روسيا إلى أوروبا يجعلها الدولة المهيمنة داخل اإلقليم األوروبي، ويُغني األوروبيين عن المظلة اإلســتراتيجية األميركية، ويُرجِّح كفة القــوى البرية الكبرى على كفة القوى البحرية الكبرى، في ذلك الصراع األبدي بينهما. فقَد غورباتشــوف منصبه ودولته الســوفيتية في يوم واحد، وتحطَّم حُلمه األوروبي الســاذج على صخرة المعادالت اإلســتراتيجية الصلبة، واستغلَّت الواليات المتحدة حالة الضعف والفوضى الروســية، فوسَّــعت مســاحة حلف الناتو شرقًا إلى تخوم الحواجز القائمة [بين " روســيا، ضاربة عرض الحائط بتحذير غورباتشــوف من أن .) 52 ( " إذا ما فرض الغرب طوقه على الشــرق روســيا والغرب] ال يمكن تخطِّـيـــها

| 28

باثنتي عشــرة دولة فقط، 1949 واســتمر األميركيون في توســيع الناتو الذي بدأ عام ، إلى التوسعة العاشرة 1952 ثم توسَّــع عشــر مرات، ابتداء من التوسعة األولى عام ) التي انضمت إليه بمقتضاها جمهورية فنلندا، فأصبحت جزءًا مهمًّا 2023 هذا العام ( من الطوق اإلستراتيجي الغربي على روسيا. وهو الطوق الذي حذَّر منه غورباتشوف منذ ثلث قرن، ويسعى بوتين إلى فَكِّه اليوم بأي ثمن. وقد تنضم مملكة السويد في القريب العاجل إلى الناتو، ليصل بذلك عدد أعضاء الحلف إلى اثنتين وثالثين دولة. وكان توسُّــع الناتو شــرقًا مصدر شكوى وقلق روســي دائم، بحكم أن الحلف لم يتأسس أص ًل إال لمواجهة روسيا، وبحكم التفاهم الضمني بين غورباتشوف والقادة األميركيين في ختام الحقبة السوفيتية على عدم توسيع الناتو فيما وراء ألمانيا، مقابل سماح غورباتشوف بتوحيد شطري ألمانيا، وباستقالل الشعوب التي كانت جزءًا من اإلمبراطورية الســوفيتية. واألهم من ذلك أن توسُّــع الناتو شــرقًا يعد مناقضة تامة للمنظور اإلســتراتيجي الروسي، المستمَد من تجربة الروس المريرة مع غزو نابليون لبالدهم مطلع القرن التاســع عشــر، وغزو هتلر لها منتصف القرن العشــرين. لقد توصل الروس إال أن بالدهم ذات األراضي المترامية الواسعة، والسهوب المكشوفة الشاسعة، ال يتحقق لها األمان اإلستراتيجي إال بمبدأ النواة والغالف: النواة السالفية وغالفهــا مــن دول الجوار التابعة، أو الصديقة على األقل: غربًا في شــرق أوروبا، وجنوبًا في آسيا الوسطى. ، وهو مشــحون بالروح 2000 وهكذا صعد فالديمير بوتين إلى قيادة روســيا، عام االنتقامية الســاخطة على ما آلت إليه أمور روسيا من تضعْضُع وهَوان، بعد عَقْد من االضطراب والفوضى، وتراجع المكانة، وانحســار المكان، أثناء حكم غورباتشــوف ويلتسن. وقد عبَّر بوتين أكثر من مرة عن حزنه العميق على ضياع المجال اإلمبراطوري ، قال 2005 الروســي على أيدي القادة الضعاف الذين ســبقوه، ففي خطاب له عام انهيار االتحاد السوفيتي كان كارثة جيوبوليتيكية في ذلك ينبغي أن نعترف بأن " بوتين: فعشرات وبالنســبة لألمة الروسية تحول األمر إلى مأساة حقيقية، القرن [العشــرين]. . بل إن داء الماليين من مواطنينا وقومِنا وجدوا أنفسهم خارج حدود الدولة الروسية وتحطَّمت المُثُل القديمة... وأصبح الفقر هو الحال التفكك المس روســيا ذاتَها... .) 53 ( " السائد بين جماهير الشعب

29 |

فهنا نجد بوتين يشــخِّص األزمة البنيوية التي كانت تعاني روسيا منها يومذاك، وهي أزمة مركَّبة تشمل انحسار الجغرافيا السياسية، وتضعْضُع المكانة اإلستراتيجية، وتراجع القيــم االجتماعية، وتفاقم المعضالت االقتصادية. والالفت للنظر أن خطاب بوتين، ، والتي انضمت 2004 ، جاء بعد التوســعة الخامســة لحلف الناتو، عــام 2005 عام بمقتضاها سبع من الدول األوروبية التي كانت جزءًا من االتحاد السوفيتي أو مجاورة له إلى الحلف. وبناء على هذا التشخيص قرر بوتين استعادة المجد الروسي الضائع بأي ثمن، ولم يراهن -وهو رجل االســتخبارات ذو القلب الجليدي- على األوهام التي راهن عليها غورباتشوف ويلتسن من قبل، وهي تحويل روسيا إلى دولة أوروبية بل راهن على إعادة بناء القوة الروسية، رغم أنف أوروبا والغرب، من خالل إحياء المســيحية األرثوذكسية، واالعتزاز بالتاريخ الروسي، وتدعيم النواة السالفية الصلبة، واســتعادة ما أمكن من الغالف اإلســتراتيجي الذي تحتمي به روسيا، وهو الغالف ، الذي " الخارج الداخلي " ، مقابل " الخارج القريب " الذي يسميه الباحث، جيرالد تُولْ، .) 54 يقصد به إقليم الشيشان وغيره من مناطق الحكم الذاتي في الداخل الروسي( وبخالف غورباتشوف المتجه غربًا، تبنَّى بوتين أفكار ألكسندر دوغين، وسلفِه بيوتر الكاتب الروسي األول (والوحيد) " ) الذي يصَفه دوغين بأنه 1968 - 1895 سافيتسكي ( ). فقد دعا 55 ( " الذي يمكن وصفه بالعالِم الجيوبوليتيكي، بكل ما في الكلمة من معنى سافيتسكي الروس إلى التوجه جنوبًا وشرقًا، أي في اتجاه الشعوب التركية والصينية، بدل التعلق بأذيال الغرب، وأشاد -على غير عادة الكتَّاب الروس- بالعالقات التاريخية بين الروس والشــعوب التركية في وســط آسيا، باعتبار هذه العالقة هي التي أبعدت استقاللها الروحي عن العالم الرومانو-جرماني " روسيا ثقافيًّا عن أوروبا، وحققت لها ). وقد نحا دوغين المنحى ذاته في تنظيره اإلستراتيجي. 56 ، حسب تعبيره( " العدواني وليســت مالحظات سافيتســكي اعتباطية، بل لها أســاس تاريخي وثقافي؛ إذ يمكن القول: إن روســيا ذات روح مشــرقية نســبية، تقرِّبها من آسيا ومن العالم اإلسالمي أكثر مما هي الحال مع الغرب، ونجد ذلك -مث ًلً- في اســتلهام األدباء الروس من اإلسالم وثقافته خالل القرن التاسع عشر، الذي هو العصر الذهبي لألدب الروسي. - 1814 )، وميخائيل ليرمنتوف ( 1837 - 1799 ومن هؤالء األدباء ألكســندر بوشكين ( ). وقد قدَّمت 1953 - 1870 )، وإيفان بونين ( 1910 - 1828 )، وليو تولســتوي ( 1841

| 30

باحثتــان عربيتــان، هما: مكارم الغمري من مصر ونعمات طه من الســودان، خدمة جليلة للثقافة اإلســ مية بتتُّبع هذا التأثير اإلســ مي في األدب الروسي، بجد وجلَد ). ونبَّهني أيضًا على هذه الروح المشرقية األديب والمترجم العراقي البارع، 57 علمي( عبد الله حبَّه، الذي نقَل أمَّهات من األدب الروسي إلى اللغة العربية. لكن الوشائج الثقافيــة ال تعني دائمًا التقارب اإلســتراتيجي، خصوصًا إذا وُجدت مناقضات دينية وثقافية أخرى لهذه الوشائج، أو مطامح سياسية إمبراطورية تتستَّر خلفها. ومهمــا يكن من أمر، فإن الصحوة الروســية التي يقودها فالديمير بوتين، واإلصرار األميركي على إقصاء روسيا وتحجيمها وحصارها، جعال الصدام بين القوة الروسية البوتينية الصاعدة والقوة األميركية األطلسية السائدة أمرًا ال مناص منه. وهنا صَدَقت شــراك " ، ونظرية أليســون عن " الواقعية الهجومية " نظرية األســتاذ ميرشــايمر فــي ؛ فالوطنيون الروس الذين يمثلهم بوتين سياسيًّا، ودوغين فكريًّا، يحسون " ثوســيديد اليوم بمرارة شــديدة تجاه توسُّــع الناتو في مجالهم الحيوي، ويعتبرون ذلك غدرًا بروســيا، واســتغال ًل للحظة ضعفها أثناء تفكك االتحاد السوفيتي مطلع التسعينات. أما األميركيون فلم يضيِّعوا فرصة قط الســتنزاف روســيا أو تطويقها، وجاءت حرب أوكرانيا الحالية تتويجًا لمسار التصادم بين الطرفين. وإذا كان بوتين قد وقع في سوء التقدير التكتيكي، باجتياحه أوكرانيا في هذه الظروف، ، 2008 آم ًل الحصول على مكاســب رخيصة، على نحو ما حصل في جورجيا، عام ، فإن ســوء التقدير اإلســتراتيجي األكبر جاء من 2014 وفي شــبه جزيرة القرم، عام األميركيين وحلفائهم األوروبيين، حين حشــروا روســيا فــي الزاوية، ودفعوها إلى حلف إســتراتيجي مع العمالق الصيني الناهض. فال هم ســمحوا لروسيا باالندماج في الحضارة الغربية، والتحول دولة أوروبية عادية على نحو ما أراد غورباتشوف، وال هم قبلوا بها إمبراطورية دولية طامحة، بل سعوا إلى إقصائها وتحجيمها في الحالتين. إن انتصــار روســيا في أوكرانيا صعــب، لكن هزيمتها مســتحيلة، بغض النظر عن المصاعب والمتاعب التي تواجهها، وهذا هو لب المفارقة الكبرى في هذه الحرب. والسبب في ذلك هو أن حرب أوكرانيا بالنسبة ألميركا حرب نفوذ، أما بالنسبة لروسيا فهي حرب وجود. فأوكرانيا تنتمي إلى النواة السُّالفية التي تقع في القلب من الرؤية اإلســتراتيجية الروســية، فض ًل عن أهميتها اإلستراتيجية لروسيا، جغرافيًّا واقتصاديًّا،

31 |

وهذا ما عبَّر عنه بريجنسكي منذ مطلع التسعينيات بقوله: إن روسيا من غير أوكرانيا .) 58 تصبح دولة عادية، وبأوكرانيا -جزءًا منها أو تابعة لها- تصبح إمبراطورية( فأقل ما ســترضى به روســيا من هذه الحرب هو اقتطاع الجزء الشــرقي الثري من أوكرانيا وتملُّكه، وضم سكانه ذوي الغالبية الروسية األرثوذكسية إلى روسيا، وربما تتملَّك أيضًا جزءًا من الســاحل األوكراني المطل على البحر األســود، مع االحتفاظ لنفســها بجزيرة القِرْم وبحر آزوف ألهميتهما اإلســتراتيجية. فليس في وسع روسيا -إســتراتيجيًّا- التسليم بالخسارة الكاملة في أوكرانيا، مهما يكن ثمن الحرب، حتى وإن اقتضى األمر انشــطار أوكرانيا إلى شــطرين -على نحــو ما حدث أللمانيا في خواتيم الحرب العالمية الثانية- وتحوُّل نهر (الدَّنِيبَر) األوكراني إلى جدار برلين مائي بين الشــرق والغرب. فمنطق الجغرافيا والتاريخ في صالح روســيا في هذه الحرب، ألنها تحارب في بلد متاخم لها، وبينها وبينه تداخل بشــري وتاريخي وثقافي، بينما يحــارب األميركيون حربًا غير مباشــرة من بعيد، حيث تفصــل بينهم وبين أوكرانيا نحو خمســة آالف كيلومتر. واألمر نفسه يَصْدُق على الصراع بين الصين والواليات المتحدة على تايوان؛ حيث منطق الجغرافيا والتاريخ في صالح الصين التي ال تبعد عنها تايوان ســوى نحو مئة وســتين كيلومترًا، بينما تبعد عن الواليات المتحدة أكثر من اثني عشر ألف كيلومتر. ويتعين التأكيد أخيرًا على أن الصين لن تسمح بهزيمة إستراتيجية لروسيا أمام الغرب، بشــكل يغيِّر من طبيعة نظام الحكم الروســي، أو يحجِّم روسيا ويفكِّكها، أو يجعلها دائرة في الفلك الغربي. فالحدود بين الصين وروسيا تزيد على أربعة آالف كيلومتر، وأي ســقوط لموسكو في فلَك الغرب سيكشف ظهر الصين أمام حصار إستراتيجي غربي في البر، مع الحصار البحري الذي تسعى واشنطن لضربه عليها، من جهة بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشــرقي. وهذا العمق اإلســتراتيجي الصيني، الذي قد يتحول في أي لحظة إلى مَدَد ال ينقطع، يكفي وحده لجعْل هزيمة روسيا في أوكرانيا مستحيلة عمليًّا. صحيح أن الصين ستستفيد إستراتيجيًّا من استنزاف الطرفين، الروسي والغربي، كما ستستفيد اقتصاديًّا من اعتماد روسيا عليها، ومن تراجع النفوذ الروسي ). لكن انهيار روسيا، أو تغيير عقيدتها 59 في آسيا الوسطى، كما الحظ بعض الباحثين( اإلستراتيجية، أو هزيمتها الكاملة أمام الغرب، أمر ال تستسيغه اإلستراتيجية الصينية.

| 32

ويبدو أن الصينيين تعاملوا بحكمة مع ما دعاه أبو إستراتيجية االحتواء األميركية، جورج ،) 60 ( " عدم اإلحســاس باألمان المتأصِّل لدى القادة الروس " ،) 2005 - 1904 كينان ( بينما فشِل الغرب في ذلك التعامل. فجنى الصينيون ثمار حكمتهم السياسية ترسيخًا لصعودهم، وانشغا ًل للغرب عنهم، والتجاء من الروس إليهم. وهكذا لم يعد الشرق الصاعد هو الصين وحدها، بل الصين مدعومة بحليفها الروســي. لقد كان ماكيندر )، لكن الصين المحظوظة 61 ( " يخشــى أن تتمكن الصين في يوم ما من قهر روســيا " إســتراتيجيًّا -على ما يبدو- ليســت بحاجة إلى ذلك، فقد قدَّم الغرب روســيا إلى الصينيين على طبق من ذهب فارتمت في أحضانهم. وشــغل بوتين األميركيين عن الصين في مطلع العَقْد الثالث من القرن الحادي والعشــرين بإشعاله حرب أوكرانيا، سبتمبر/أيلول 11 كما شغلهم عنها أسامة بن الدن في مطلع العَقْد األول منه بهجمات الهوجاء، التي فتحت على العالم اإلسالمي أبوابًا واسعة من االستباحة اإلستراتيجية لم تنســد حتى اليوم. وهنا يحســن بنا االنتقال إلى موقع العالم اإلسالمي من ظاهرة ، التي أفَضْنا في شرحها فيما سلف من هذه الدراسة. " شروق الشرق وغروب الغرب " مورفولوجية العالم اإلسالمي وُلد اإلسالم في شبه الجزيرة العربية، عند تالقي القارات الثالث التي كانت أساس المعمور من األرض آنذاك، وهي آسيا وإفريقيا وأوروبا، ثم ساح من الجزيرة العربية مشــرِّقًا في جنوب آســيا، ومغرِّبًا في شمال إفريقيا، حتى انتهى العالم اإلسالمي إلى هيكله الجغرافي الذي نعرفه اليوم. وقد اندرجت شعوب عديدة في ظالل اإلسالم، وكان لكل منها إسهامُها الخاص في الحضارة اإلسالمية. وحافظ الفضاء الحضاري اإلســ مي على وحدته المعنوية وتناصره السياســي على مــدى القرون وإلى غاية العصــور الحديثة، رغــم تنوعه القومي والثقافي واللغوي، وانفتاحه على كل األديان والمِلَل والنِّحَل. ) من أهم الوثائق التاريخية الدالَّة على الوحدة 1377 - 1304 ولعل رحلة ابن بطوطة ( المعنوية والثقافية بين الشــعوب اإلســ مية، فقد وجد هذا الرحالة المغربي في كل األراضي التي زارها لغة مشــتركة وقِيَمًا مشــتركة مع أقوام مسلمين، يختلف أكثرهم عنه في العِرق والموطن والتقاليد، لكن تجمعه بهم عقيدة توحيدية كونية هي العقيدة

33 |

اإلسالمية، وثقافة إنسانية عالمية هي الثقافة اإلسالمية. واستقبلته وجوه مسلمة مبتسمة في كل مكان، خالل رحلته الطويلة التي دامت أكثر من خمسة وعشرين عامًا، قطَع خاللها نحو مئة وأربعين ألف كيلومتر، وجاب مساحة من األرض تضم اليوم أربعًا وأربعين دولة معاصرة، أغلبها أعضاء في منظمة التعاون اإلسالمي. أقام ابن بطوطة مكرَّمًا في كل مكان من الخريطة اإلسالمية: في المساجد، والمدارس، والزوايا الصوفية، والقصور. وتقلَّد منصب القضاء في كل من الهند وجزر المالديف، وعُيّن ســفيرا لملك الهند المســلم إلى ملك الصين، وأخذ علوم الشريعة عن علماء فــي مصر والشــام والحجاز، وأصبح مقرَّبًا من عدة ملــوك، وتعلَّم اللغتين، التركية والفارســية، وجمَع ثروة عظيمة، وتزوج عدة زِيجات. وقد الحظ المؤرخ المصري، هذا الرجل قطع العالم اإلســ مي " حســين مؤنــس، في حديثه عــن ابن بطوطة أن التي يســميها بالد جاوة أو سومطرة، وجزر الفلبين كله من المغرب إلى إندونيســيا التي يســميها بالد طوالســي، و]زار[ الجاليات اإلسالمية في مدن السواحل الشرقية والجنوبيــة في الصين، وتمادى في الرحلة حتــى دخل بكينْ. هذا الرجل قطَع هذه المســافات الطويلة دون أن يشــعر أنه خرج من بلده، أو فارق أهله. ووجد في كل .) 62 ( " مكان من يستقبله ويؤويه، ويقدِّم له الطعام يغطي العالم اإلســ مي اليوم ربع اليابســة تقريبًا، حيث تمتد مساحته اثنين وثالثين مليون كلم مربَّع، ويصل عدد المســلمين خُمْس ســكان العالم تقريبًا. أما من حيث البنية الهيكلية للجغرافيا اإلســ مية، فقد قدَّم جمال حمدان بذور نظرية تشــرح ما )، أي بنْيته الجغرافية ومعالمها األساسية؛ 63 ( " مورفولوجية العالم اإلسالمي " دعاه هو غطاء روحي واســع " حيث ســعى حمدان إلى دراســة اإلســ م، ال من حيث هو ،) 65 ( " من حيث هو ظاهرة في المكان " )؛ فقد فعل ذلك كثيرون، بل 64 ( " االنتشــار وقدَّم نظرية متماسكة في الجغرافيا السياسية اإلسالمية.

| 34

الهالل اإلسالمي كما تصوَّره جمال حمدان :) 1 الخريطة ( قارة داخل القارات، قارة " فمــن حيث الموقع، الحظ حمدان أن العالم اإلســ مي ) تربط بين القارات الثالث التي كانت أساس المعمور من العالم القديم، 66 ( " وُسْطى للمستشرق " القارة الوسطى " وهي إفريقيا وآســيا وأوروبا. وقد نسب حمدان وصف )، وإن كان مالك بن نبي سبق حمدان إلى 2005 - 1913 الفرنســي، فينســان مونتي ( ، كما نسب ابن نبي إلى اإلمبراطور نابليون " قارة وسَطِيَّة " وصف العالم اإلسالمي بأنه ). وهي كلها أوصاف متقاربة 67 ( " القارة الوسِيطَة " بونابرت وصْفه للعالم اإلسالمي بأنه اشتقاقيًّا ودالليًّا. وقد ذهب حمدان إلى أن العالم اإلسالمي -في تشكُّله الجغرافي- )، وأن هذا الهالل/القوس موزَّع ما 68 ( " يتألف من قلب وجناحين " هــ ل أو قــوس فمن هذا الشكل القوســي تنبثق حقيقة أساسية، " بين جنوب آســيا وشــمال إفريقيا: وهي أن دار اإلسالم في إفريقيا تتركز في الدرجة األولى في نصفها الشمالي، بينما ). ويبدو أن صامويل هنتنغتون 1 ) (الخريطة 69 ( " تقع في آســيا في نصفها الجنوبــي ) يوافق حمدان في فكرة الهالل اإلســ مي، فقد أشــار إشارة عرضية 2008 - 1927 ( الكتلة اإلســ مية تبدو في شــكل هالل يمتد من عمق إفريقيا إلى وســط " إلى أن ). وفكرة الجناحين، اإلفريقي واآلســيوي، للعالم اإلســ م تزكيها وقائع 70 ( " آســيا الجغرافيا السياسية اليوم، حيث تشتمل منظمة التعاون اإلسالمي على ست وعشرين دولة إفريقية، وســبع وعشرين دولة آســيوية. وفيما وراء هذا القلب والجناحين، ال يوجد امتداد إســ مي متماســك، رغم أن اثنتين من دول أميركا الالتينية عضوان في

35 |

اإلســ م جنوب خط االستواء أطراف وأصابع " منظمة التعاون اإلســ مي؛ ذلك أن .) 71 ( " ثانوية، وهو في العالم الجديد شظايا سديمية متطايرة وقد أحسن حمدان إذ جعل المحيط الهندي بمنزلة النجمة في جوف الهالل اإلسالمي العمالق، وذهب إلى أن المسلمين عوَّضوا تاريخيًّا خسارتهم للبحر األبيض المتوسط، أمام القوى األوروبية الزاحفة، بالســيطرة على المحيط الهندي، وذلك بفضل حركية وحيوية سكان الساحل الجنوبي من الجزيرة العربية، أهل اليمن وعُمان، الذين نقلوا اإلســ م بحرًا إلى الطرف الجنوبي الغربي من الهند، وإلى جزر جنوب شرق آسيا، ومنها ماليزيا، وإندونيسيا التي هي اليوم كُبرى دول العالم اإلسالمي من حيث عدد السكان. يقول حمدان في حديثه عن مكانة المحيط الهندي في الجغرافيا السياسية اإلسالمية: ففي قلبه [أي الهالل اإلســ مي] -ونكاد نقول كنجمته- يســتقر المحيط الهندي، " الذي هو منطقيًّا وبالضرورة محيط اإلسالم. وإذا كان اإلسالم قد فقد البحر المتوسط كبُحيرة إسالمية أو شبه إسالمية تقليدية، فقد كسب المحيط الهندي الذي أصبح البحر المتوســط الجديد في العالم اإلسالمي: الحضارمة والعُمانيون إغريقُه وبنادقتُه، وإن ). وتشــبيه حمدان للحضارمة والعُمانيين باإلغريق والبنادقة 72 ( " لم يكونوا رُومانَه... (نســبة إلى مدينة البندقية اإليطالية)، ورفْضه تشــبيههم بالرومان، إشارة ذكيَّة منه إلى أنهم نقلوا اإلســ م إلى جنوب شــرق آســيا بالدعوة السلمية والتعامل التجاري، ال بالفتح العسكري. ويتفق عدد من الباحثين الغربيين مع حمدان في أهمية المحيط الهندي ومركزيته في الجغرافيا السياسية اإلسالمية؛ فهو بحر تتقاطع فيه خطوط المالحة الدولية، وتتنافس القوى الدولية الصاعدة والسائدة على إيجاد موطئ قدم لها فيه أو على شواطئه، وهذا ما يزيد من األهمية اإلستراتيجية للجغرافيا السياسية اإلسالمية. ومن هؤالء الباحثين، األميركي روبرت كابالن، والكندي ساباستيان رانجْ، اللذان خصَّص كالهما كتابًا لهذا ). وقد تناولنا في دراسة خاصة داللة رحلة ابن بطوطة وأفكار حمدان 73 الموضوع ( )، فيمكن الرجوع إليها لمن أراد 74 على وحدة المعنى والمبنى في العالم اإلسالمي( التوسع في هذا الموضوع.

Page 1 Page 2 Page 3 Page 4 Page 5 Page 6 Page 7 Page 8 Page 9 Page 10 Page 11 Page 12 Page 13 Page 14 Page 15 Page 16 Page 17 Page 18 Page 19 Page 20 Page 21 Page 22 Page 23 Page 24 Page 25 Page 26 Page 27 Page 28 Page 29 Page 30 Page 31 Page 32 Page 33 Page 34 Page 35 Page 36 Page 37 Page 38 Page 39 Page 40 Page 41 Page 42 Page 43 Page 44 Page 45 Page 46 Page 47 Page 48 Page 49 Page 50 Page 51 Page 52 Page 53 Page 54 Page 55 Page 56 Page 57 Page 58 Page 59 Page 60 Page 61 Page 62 Page 63 Page 64 Page 65 Page 66 Page 67 Page 68 Page 69 Page 70 Page 71 Page 72 Page 73 Page 74 Page 75 Page 76 Page 77 Page 78 Page 79 Page 80 Page 81 Page 82 Page 83 Page 84 Page 85 Page 86 Page 87 Page 88 Page 89 Page 90 Page 91 Page 92 Page 93 Page 94 Page 95 Page 96 Page 97 Page 98 Page 99 Page 100 Page 101 Page 102 Page 103 Page 104 Page 105 Page 106 Page 107 Page 108 Page 109 Page 110 Page 111 Page 112 Page 113 Page 114 Page 115 Page 116 Page 117 Page 118 Page 119 Page 120 Page 121 Page 122 Page 123 Page 124 Page 125 Page 126 Page 127 Page 128 Page 129 Page 130 Page 131 Page 132 Page 133 Page 134 Page 135 Page 136 Page 137 Page 138 Page 139 Page 140 Page 141 Page 142 Page 143 Page 144 Page 145 Page 146 Page 147 Page 148 Page 149 Page 150 Page 151 Page 152 Page 153 Page 154 Page 155 Page 156 Page 157 Page 158 Page 159 Page 160 Page 161 Page 162 Page 163 Page 164 Page 165 Page 166 Page 167 Page 168 Page 169 Page 170 Page 171 Page 172 Page 173 Page 174 Page 175 Page 176 Page 177 Page 178 Page 179 Page 180 Page 181 Page 182 Page 183 Page 184 Page 185 Page 186 Page 187 Page 188 Page 189 Page 190 Page 191 Page 192 Page 193 Page 194 Page 195 Page 196 Page 197 Page 198 Page 199 Page 200

Made with FlippingBook Online newsletter