Together Apart-(A)

وُلدت فكرة كتاب "متباعدون… معًا" من رحم المعاناة البشرية لتجسدها في أصعب أيامها، وتجمع قلوب الناس وعقولهم، حتى وإن تباعدت أجسادهم. وقد تم اختيار الأعمال السردية والمقالات والأشعار والرسومات والقصص من بين الأعمال المُرسَلة من الأشخاص الذين استجابوا للدعوة العامة، وهي تعبِّر بأسلوب بسيط عن المشاعر الإنسانية التي سادت الشهور الأولى من الجائحة في صورتها الواقعية المجردة، حيث الخوف والرجاء والشك والحب والاكتئاب والإيمان والوحدة والامتنان. وعلى الرغم من أن صورة المستقبل لا تزال ضبابية، فإنه يحدونا أمل في أن يصبح هذا الكتاب شاهدًا على قوة الروح الإنسانية، وعلى ترابطنا حتى في أصعب أوقات حياتنا. وهذا العمل ما هو إلا أساس لبناء عامر بالنماذج المضيئة، وما يُقدِّم إلا لمحات بسيطة من المشاركة الوجدانية، والإقرار بالعرفان لمن كانوا في الصفوف الأولى؛ ليُخرج منَّا أجمل ما فينا، ويرسم شكل الحياة التي نأملها، ويكشف عن أولوياتنا الحقيقية في الحياة. فنحن بالفعل متباعدون... معًا، وسنظل متحدين.

دار جامعة حمد بن خليفة للنشر 5285 صندوق بريد الدوحة، دولة قطر www.hbkupress.com

.)bilalbassal.com( صورة الغلاف بريشة الفنان بلال بصل .2016 ، "نوافذ على العالم" - لوحة أكريليك على قماش الكانفاس جميع الحقوق محفوظة.

لا يجوز استخدام أو إعادة طباعة أي جزء من هذا الكتاب بأي طريقة دون الحصول على الموافقة الخطية من الناشر باستثناء حالة الاقتباسات المختصرة التي تتجسد في الدراسات النقدية أو المراجعات.

2020 الطبعة العربية الأولى عام دار جامعة حمد بن خليفة للنشر https://doi.org/10.5339/togetherapartbook2020 رقم تعريف المحتوى:

2

المقدمة ، ظهـرت إرهاصـات فيـروسشـديد العـدوى، مـا لبـث أن صـار 2019 قبـل انقضـاء سـنة ، تغي ـر وجـه العال ـم. 2020 حدي ـث العال ـم أجمـع. وبعـد مـرور بضعـة أسـابيع مـن سـنة ) الغامـضمشـارق الأرضومغاربهـا 19- فقـد اجتـاح فيـروسكورونـا المسـتجد (كوفيـد بسـرعة مفزعـة ليصيـب المئـات، بـل الآلاف مـن البشـر فـي كل الأنحـاء. تغيّــرت لغاتنــا، حتــى إن كلمــات وعبــارات مثــل "الجائحــة"، و"العــزل" و"الحجــر الصحــي" و"التباعــد الاجتماعــي" و"تســطيح المنحنــى" و"الحــد مــن الانتشــار" و"ارتــداء الكمامــات" طغـت عل ـى أحاديثن ـا، وشـلّت تفكيرن ـا. خل ـت السـماء مـن الطائ ـرات. خل ـت الطـرق مـن المـارة والسـيارات. خل ـت أرفـف المتاجـر مـن السـلع بعـد أن هـرع النـاس لشـرائها هلعًـا مـن الجائحـة. أوصـدت المتاحـف والمتنزهـات، بـل حتـى دور العبـادة خلـت مـن الصلـوات. وأُغلقـت أبـواب المـدارس. وأُلـزِم النـاس فـي كل مـكان بـأن يلزمـوا بيوتهـم، ويعتزلـوا غيرهـم. وُلــدت فكــرة كتــاب "متباعــدون… معًــا" مــن رحــم المعانــاة البشــرية لتجســدها فــي أصعـب أيامهـا، وتجمـع قلـوب النـاسوعقولهـم، حتـى وإن تباعـدت أجسـادهم. وقد تم اختيـار الأعمـال السـردية والمقـالات والأشـعار والرسـومات والقصـصمـن بيـن الأعمـال المُرسَـلة مـن الأشـخاص الذي ـن اسـتجابوا للدعـوة العامـة، وهـي تعبّـر بأسـلوب بسـيط عـن المشـاعر الإنسـانية التـي سـادت الشـهور الأولـى مـن الجائحـة فـي صورتهـا الواقعيـة المجـردة، حيـث الخـوف والرجـاء والشـك والحـب والاكتئـاب والإيمـان والوحـدة والامتنـان. وعلـى الرغـم مـن أن صـورة المسـتقبل لا تـزال ضبابيـةً، فإنـه يحدونـا أمـل فـي أن يصبـح هـذا الكتـاب شـاهدًا علـى قـوة الـروح الإنسـانية، وعلـى ترابطنـا حتـى فـي أصعـب أوقـات حياتن ـا. وهـذا العمـل مـا هـو إلا أسـاس لبن ـاء عامـر بالنمـاذج المضيئ ـة، ومـا يُقـدّم إلا لمحـات بسـيطة مـن المشـاركة الوجدانيـة، والإقـرار بالعرفـان لمـن كانـوا فـي الصفـوف الأولــى؛ ليُخــرج منّــا أجمــل مــا فينــا، ويرســم شــكل الحيــاة التــي نأملهــا، ويكشــف عــن أولوياتنـا الحقيقيـة فـي الحيـاة. فنحـن بالفعـل متباعـدون... معًـا، وسـنظل متحديـن.

3

الجزء الأول تجارب واقعية – يروس � الف

5

6

1 مقالات أدبية (و إن شئت فقل واقعية) د. أحمد جمال مدرس الأدب الفرنسي بجامعة المنيا

لأول مرة... لم يكن يخطر على بالي أبدًا، في يوم من الأيام، أن أعيشهذه اللحظات التي أعانيها الآن. أشـعر وكأن حياتـي كلهـا قـد تغيـرت، بـل قلبـت رأسـا علـى عقـب. وحينمـا أتكلـم عـن حيات ـي، لا أعن ـي الحي ـاة بالمفهـوم المـادي فقـط ال ـذي يخـص العمـل والتعامـات مـع الآخريـن، ومـا إلـى ذلـك، ولكنـي أعنـي الحيـاة بمفهومهـا العميـق: حياتـي أنـا، أعنـي ذاتـي، ووجـودي، وكيانـي، ومشـاعري. لأول مـرة، أشـعر أن ـي قـد ب ـدأت أتغي ـر مـن الداخـل، وأصبحـت شـخصًا آخـر غي ـر ال ـذي كنـت عليـه مـن قبـل. ومـا أدهشـني، وجعلنـي أدرك كـم أنـا ضعيـف، هـو أن سـبب تغييـر حيات ـي، هـو ذل ـك الشـيء ال ـذي لا ي ـرى بالعي ـن المجـردة. نعـم هـو كذل ـك. شـيء حقي ـر، ومهيـن، ولا يـرى بالعيـن! ولكنـه غيرنـي تمامًـا، وقلـب حياتـي بأكملهـا رأسـا علـى عقـب. ذلـك الفيـروس اللعيـن الـذي أحـال بينـي وبيـن ذهابـي إلـى عملـي بالجامعة، وبينـي وبين ذهابـي إلـى المقهـى حيـث التسـامر مـع الأصدقـاء، كمـا أحـال بينـي وبيـن متعة التسـوق فـي السـوق حيـث كنـت معتـادًا أن أشـتري كل خميـسمـن كل أسـبوع بعـض الأغـراض التـي أحتـاج إليهـا، وبرفقـة الأصدقـاء، مـن هـؤلاء الباعـة البسـطاء الذين يفترشـون الأرض ببضاعتهـم الطازجـة الجميلـة، حتـى أنـه مـن كثـرة مـا تـرددت عليهـم صـاروا يعرفوننـي ويستبشـرون فرحًـا بقدومـي لأنـي كنـت (أنفعهـم) كمـا يقولـون بشـرائي كميـات كبيـرة منهـم وبالسـعر ال ـذي يحددون ـه. لقـد حـال الفي ـروس بالفعـل بين ـي وبي ـن مـا أشـتهي مـن متـع الدنيـا، ولا أبال ـغ فـي ذل ـك، فحيات ـي صـارت مقيـدة، ولا متعـة للمـرء ب ـا حري ـة! وأصبح ـت أشـعر كأن المـوت ف ـي صورت ـه الخفي ـة، يجعلن ـا نخ ـاف من ـه دون أن ن ـراه، أو نلمسـه، وذل ـك ليقينن ـا الت ـام بوجـوده، وعلمن ـا الراسـخ أن ـه حقيقـة لا يمكـن إخفاؤهـا، بالرغـم مـن أنـه حقيقـة خفيـة فـي حـد ذاتهـا.

) رُتّبت مقالات الكتاب في كل جزء من أجزائه الثلثة ترتيبًا هجائيّا تبعًا لأسماء كُتّابها. 1(

7

إنـه الخـوف المدمـر! فقـد تدمـرت أعصابـي بالمعنـى الحرفـي للكلمـة، فخوفـي الشـديد علـى عائلتـي، جعلنـي أصبـح عنيفًـا أكثـر معهـم للأسـف. فبـدً مـن أن أكـون أكثـر لطفًـا فــي هــذه اللحظــات العصيبــة، أصبحــت أكثــر عدوانيــة، ولا أدري مــا الســبب. بــل أعلــم السـبب. إن ـه في ـروسكورون ـا اللعي ـن، ال ـذي أصابن ـي بن ـوع مـن الهل ـع، حت ـى ظنن ـت أن حياتـي كلهـا صـارت تحـت سـطوة هـذا الكائـن اللمرئـي. لـم أكـن أتخيـل أبـدًا أن أقضـي السـاعات التـي كنـت أتمناهـا مـن قبـل، أقصـد سـاعات الإجــازة مــن العمــل، فــي هــذا الملــل الشــديد. فلقــد كرهــت المسلســات، والأفــام، وسـئمت مـن الأخب ـار المكـررة الت ـي توحـي وتشـعرني بالمـوت القري ـب. أحيان ًـا أقـول لنفسـي، أن ـا كرجـل مؤمـن بالل ـه لا ينبغـي ل ـي أن أخـاف المـوت. ولكن ـي حينمــا أفكــر فــي الالتزامــات التــي ألتــزم بهــا فــي حياتــي، والأعبــاء التــي أود أن أتخلــص منهـا، والذنـوب التـي تكبلنـي وأريـد أن أتـوب منهـا، أجـد نفسـي فـي حالـة تيـه شـديدة، حيــث أســرح بخيالــي بعيــدًا متخيــاً قصصًــا وحكايــات تمتــد جذورهــا مــن الواقــع الــذي أعيشـه، حي ـث المـوت القري ـب، ومـوت كل قري ـب! فــي الحقيقــة، أنــا لا أدري لمــاذا أكــرر كلمــة المــوت كثيــرًا حيــن التحــدث فــي هــذا السـياق، أعنـي تداعيـات فيـروسكورونـا علـى حياتـي. ربمـا لأنـه ترسـخ فـي وجدانـي، أن هـذا الفي ـروس م ـا هـو إلا نذي ـر ب ـأن المـوت قري ـب، وهـو بالفع ـل قري ـب! نعــم، تغيــر كل ســلوكي، ليــسكثيــرًا ولكنــه تغيــر. حيــث بــدأت أدعــو فــي صلواتــي أدعيـة معينـة. وظللـت أكـرر دعـاء النبـي عليـه الصـاة والسـام حينمـا دعـا ربـه: «اللهـم إن ـي أعـوذ ب ـك مـن الجن ـون والجـذام والب ـرص ومـن سـيئ الأسـقام»، ث ـم أعقـب قائ ـا: «اللهـم نجنـي وأحبتـي مـن فيـروسكورونـا ومـن كل داء». نعـم أصبحـت أذكـر فيروس كورونـا فـي دعائـي! الآن، بســبب هــذا الشــيء اللمرئــي، أصبحــت أكثــر إيمانًــا باللــه. نعــم، فهــو ســبحانه وتعالـى أيضًـا لا يمكـن لأحـد أن يـراه بعينـه المجـردة، ولكنـه سـبحانه ليـسكمثلـه شـيء وهـو السـميع البصيـر. أنـا أخـاف مـن الفيـروس اللعيـن الخفـي، وخوفـي هـذا علمنـي أن الخـوف مـن الـرب الرحيـم الـذي لا تدركـه الأبصـار أولـى. أنـا لا أريـد أن أحـول شـعوري إلـى عبـارات وعـظ دينـي، ولكـن الحقيقـة أن أفـكاري لـم تعـد مرتبـة كمـا كانـت مـن قبـل، وصـارت مشـاعري أيضًـا متقلبـة، وحالتـي المزاجيـة غيـر مسـتقرة. وأنـا بطبعـي شـخصمحـب للحيـاة، كمـا أنـي أريـد أن أعيـشمـن أجـل والـديّ،

8

ومـن أجـل أولادي، ومـن أجـل كل أحبابـي. وقـد صـرت مرعوبًـا أن أفقـد أحدهـم! فأنـا لا أقـوى علـى فراقهـم. ولكن ـي فقـدت فـي الواقـع الكثي ـر مـن الأحب ـاب مـن قب ـل، فقـد مـات أخ ـي الأصغـر بحـادث غـرق حينمـا كنـت طالبًـا بالجامعـة، وخبـأ عنـي والـداي الخبـر، لأن هـذا الأمـر وقـع فـي فت ـرة الامتحان ـات، وهمـا يعلمـان أن ـي كن ـت الأول عل ـى الدفعـة، وأرادوا أن أكمـل امتحاناتـي، محافظًـا علـى ترتيبـي بيـن زملئـي، وحتـى أكمـل الحلم، فقـد كان يحلـم والداي أن أصبـح أسـتاذًا جامعيّـا، وقـد صـار وللـه الحمـد. ولكن الفيروس يفتك بالجميع! إن الفيــروس لا يفــرق بيــن شــخصوآخــر، لا يفــرق بيــن متعلــم وجاهــل، بيــن أســتاذ جامعـي وغيـره، بيـن أميـر وغفيـر، الجميـع ضعيـف أمـام هـذا الجنـدي الخفـي الذي أرسـله الله ليرينـا مـدى قدرتـه سـبحانه، ومـدى ضعفنـا نحـن البشـر. ولـو نظـرت إلـى الفيـروس عل ـى أن ـه عـدو، فقـد أشـعر بالهل ـع لمـا يملكـه مـن قـوة فت ـك جب ـارة. ولكن ـي حينمـا أراجـع تاريـخ البشـرية مـع الأوبئـة والأمـراض، أدرك تمامًـا أن لهـذا الوبـاء أجـاً، وأن لهـذا الفيــروس عمــرًا، مثلنــا نحــن البشــر، وســينتهي أجلــه ثــم يختفــي كمــا بــدأ. فــا داعــي للهلــع! فكــم مــن الأوبئــة مثــل الكوليــرا، والإنفلونــزا الإســبانية، وغيرهــا مــن الأوبئــة الضاريـة قـد تجاوزتهـا البشـرية فـي فتـرات وجيـزة. ولكـن السـؤال: مَـن مِـن البشـر قـد هل ـك، ومـن ذا ال ـذي نجـا؟! أحيانًـا ينتابنـي شـعور بأنـي شـخص أنانـي، فكثيـرًا مـا تبـادرت إلـى ذهنـي هـذه الأفـكار السـوداوية ف ـي هـذه الأزمـة النفسـية الت ـي أمـر بهـا بسـبب هـذا الفي ـروس اللمرئ ـي. وكنـت كثيـرًا مـا أتمنـى أن أكـون مـن الناجيـن مـن هـذا الوبـاء، مـع علمـي التـام أنـه لابـد مـن ضحايـا. فهـذا للأسـف أمـر بديهـي وحتمـي. وكثيـرًا مـا كان يتبـادر إلـى ذهنـي ذلـك المثـل الشـائع: «إذا جـاء الطوفـان... ضـع ابنـك تحـت قدميـك». ولكـن هـذا المثـل قبيـح، فهــو يعنــي أن يضحــي الإنســان بأقــرب النــاس إليــه حتــى ينجــو هــو. ولكــن الفيــروس حتــى لــم يعــط الفرصــة لــذوي القلــوب المريضــة مــن أن يمارســوا فعلتهــم الشــنعاء هـذه، حيـث يضحـون بآخري ـن مـن أجـل نجاتهـم، وذل ـك لأن ـه لا يفهـم سياسـة، أو مكـر، أو خبـث البشـر فـي التعامـل مـع الضحايـا، إذ إنـه لا يفـرق بيـن أحـد منـا جميعًـا، والواقـع الـذي نعيشـه فـي هـذه الأيـام، فـي ظـل انتشـار فيـروسكورونـا يثبـت مـدى عـدل هـذا العـدو تجـاه البشـرية. ولكنـي أعـرف نفسـي جيـدًا، وأؤمـن أنـه إن جـاء المـوت فسـأقدم نفسـي مضحيًـا بهـا مـن أجـل نجـاة أحبابـي، فـا عيـش يحلـو إلا بهـم.

9

ولكــن أحيانًــا أتســاءل، فربمــا مــا يدفعنــي للتضحيــة بنفســي هــو رغبتــي الخفيــة، المدفوعــة مــن نفســي المريضــة، فــي أن أعيــش دور الضحيــة. ولكنــي فــي الحقيقــة لا أعتقــد ذلــك. فأنــا أؤمــن جــدّا أنــي أحــب عائلتــي أكثــر مــن نفســي. وعلــى المســتوى الشــخصي، كــم أتمنــى المــوت والجنــة، وإن شــئت فقــل، الحــور العيــن، آآآه... الحــور العي ـن! كـم أتمن ـى أن أكـون ممـن سـيكافئهمالله ف ـي الجن ـة بالح ـور العي ـن. خاصـة وأنـا أعيـش لحظـات العزلـة والوحـدة تلـك. الحـور العيـن، ذلـك الحلـم الـذي قـد يحققـه لـي ذلـك الفيـروس اللعيـن. وهنـا تحضرنـي مقولـة جميلـة تقـول: «قـد يكمـن الخيـر فـي الشـر»، نعـم، وقـد تكـون الرحمـة فـي العـذاب. واليقيـن، أن قضـاءاللهكلـه خيـر، ولكـن ذل ـك لمـن يصب ـر ويحتسـب! يق بالخارج � مكالمة من صد حينمـا اتصـل بـي صديقـي، وزميـل الدراسـة، والعمـل بالكليـة، الأخ محمـود، والـذي كان مبعوث ًـا فـي إح ـدى ال ـدول الأجنبي ـة، وذكـر ل ـي أن ـه تعـرض للإصاب ـة بفي ـروسكورون ـا، انتابتنــي قشــعريرة غريبــة هــزت جســدي بالكامــل. فصديقــي محمــود مقــرب جــدّا إلــى قلبـي، فكـم عشـنا لحظـات الفـرح والسـرور، وكذل ـك لحظـات الحـزن سـويّا. هــو مــن قريــة بســيطة، أهلهــا مــن خيــرة فلحيــن مصــر، أنــاس بســطاء، قلوبهــم نقي ـة، وعامـرة بالإيمـان. لمسـت تل ـك الصفـات فـي سـلوك صديقـي ال ـذي فضـل أخـاه علـى نفسـه، حينمـا تحمـل نفقـات زواجـه، وذلـك لأن أخـاه كان يكبـره بعـام، ولكنـه كان محـدود الدخـل. ولمسـت طيبـة ونقـاء محمـود فـي أمـور أخـرى كثيـرة، لا أسـتطيع أن أحصيهـا مـن كثرتهـا. نشــأت بينــي وبيــن محمــود صداقــة وطيــدة فــي المدينــة الجامعيــة، وامتــدت تلــك الصداقـة حتـى وقتنـا هـذا. وتأثـرت بـه كثيـرًا، وبصفاتـه الجميلـة، وبنمـط حياتـه المنظم. فقـد كان متفوقًـا فـي دراسـته، وسـاعد كل منـا الآخـر حتـى يظـل علـى قمـة الترتيـب الدراسـي بيـن الزمـاء. وعشـت معـه أجمـل لحظـة فـي حياتـي، وهـي لحظـة تعيينـي معيـدًا بالكليـة. فلقـد تعين ـت أن ـا وهـو ف ـي نف ـس الي ـوم. واحتفلن ـا لسـماعنا، لأول م ـرة كلمـة ي ـا «دكت ـور» مـن قبـل موظفـي الكليـة التـي تخرجنـا فيهـا. وسـكنت معـه فـي الاسـتراحة المجهـزة لأعضـاء هيئـة التدري ـس، فـي نفـس الحجـرة، حيـث ليال ـي السـهر والضحـك والسـمر.

10

ومــرت الســنوات، إلــى أن حصــل محمــود علــى بعثــة خارجيــة للحصــول علــى درجــة الدكتـوراه مـن الخـارج. ومنـذ تلـك اللحظـة التـي مـر عليهـا أكثـر مـن سـبع سـنوات، لـم أر صديقــي حتــى الآن. ولــم يكــن بينــي وبينــه تواصــل إلا عــن طريــق مواقــع التواصــل الاجتماعــي. ، تلقي ـت مكالمـة عب ـر «الماسـنجر» مـن صديقـي 2020 وفـي بداي ـة شـهر أبري ـل ع ـام محمــود، المبعــوث بالخــارج، حيــث أخبرنــي أنــه مــر بتجربــة الإصابــة بفيــروسكورونــا اللعيــن، وللتــو يشــعر بالشــفاء. وحينمــا أخــذ يشــرح لــي أعــراض المــرض اللعيــن الــذي أصابــه، تذكــرت المكالمــة السـابقة منـه والتـي أخبرنـي فيهـا أنـه قـرر البقـاء بالخـارج للعمـل هنـاك، وأنـه سـيتخلف عـن البعثـة، وأنـه لـن يعـود مـرة أخـرى للعمـل بالكليـة، وأنـه سـيوفي الالتزامـات الماديـة عليـه للدولـة. وأخبرنـي أنـه يريـد أن «يكـون نفسـه»، فـرددت عليـه وقتهـا ألا يفعـل ذلـك وأن «محـدشضامـن تقلبـات الزمـن». ولكنـه أصـر علـى قـراره. فــي هــذه المكالمــة البائســة، أخــذ محمــود يقــص علــيّ أعــراض الإصابــة بفيــروس كورونـا، والتـي شـعر بهـا هـو شـخصيّا. فصديقـي محمـود يبلغ مـن العمر خمسًـا وثلثين عامًـا مثلـي تمامًـا. وقـال لـي: «ده كورونـا يـا أحمـد، أول مـرة أحـس بتعـب جسـماني زي كـده، عمـري فـي حياتـي مـا حسـيت بالتعـب ده، كنـت بحـس أن جسـمي بيتقطـع، وأن حــد عمــال يقطــع فيــك وأنــت مــش عــارف تعمــل أيــه، الأول بــدأت معــي بــدور كنــت فاكـره دور بـرد عـادي، وعمـال أضـرب «كوميتريكـس» وخلصـت علبتيـن «كوميتريكس» ومفيـشفايـدة، والتعـب بيزيـد، وكان قبـل كـده قبـل علبـة الكوميتريكـسمـا تخلـص كان الـدور بينتهـي، وكنـت لمـا أكـح، أحـس أن روحـي بتطلـع مـع الكحـة، وصـداع فظيـع لا يقــاوم كان يــروح وييجــي، وكنــت بحــس أن دماغــي بتتفرتــك منــه، وإســهال رهيــب، كنـت كل مـا آجـي آكل أو أشـرب حبـة شـوربة ألاقـي جانـي إسـهال رهيـب. وكان ميجيش غي ـر ل ـو أكل ـت أو شـربت حاجـة، كان سـاعتها جسـمي يفـور ويسـخن وأروح أجـري عل ـى الحمـام، يعن ـي ي ـا أحمـد كان إسـهال مـازم ل ـ كل والشـرب ب ـس، وكن ـت كل مـا آخـد نفسـي، كان ـت تطل ـع كح ـة ناشـفة ج ـدّا وتدب ـح زوري، ب ـس بصراح ـة مكنت ـش حاسـس بضيـق جامـد فـي التنفـس، يمكـن علشـان أنـا مـش مدخـن، الله أعلـم، بـس فعـاً كان ضيـق تنفـس بسـيط جـدّا، الحمـد للـه. بـس أول مـرة يـا أحمـد أحـس إنـي خـاصهمـوت كيلـو فـي الإسـبوعين دول. لأنـي مكانـش عنـدي 12 مـن التعـب. وجسـمي خـس بتـاع أي شـهية لـ كل، ولـو أكلـت كان يجينـي إسـهال. المهـم كلمـت الدكتـور بتاعـي، قلـت

11

لـه حصـل معـي كـذا كـذا... فقـال لـي دي كلهـا أعـراضكورونـا يـا باشـا، اعـزل نفسـك، وخل ـي ح ـد يجيبل ـك علب ـة «باراسـيتامول» م ـن أق ـرب صيدلي ـة، أن ـت ع ـارف ي ـا أحمـد إن ـه ملــوش عــاج، وفعــا فضلــت آخــد «باراســيتامول» وأشــرب حاجــات ســخنة كل نصــف سـاعة، وركـزت علـى الليمـون والزنجبيـل واليانسـون، وكان فيـه خلطـة جميلة جـدّا كده كن ـا بنعملهـا هن ـا عب ـارة عـن بصـل عل ـى ليمـون عل ـى زنجبي ـل عل ـى حب ـة البركـة بحي ـث تقــوي الجهــاز المناعــي. وفضلــت آخــد فــي الحاجــات دي لغايــة مــا ربنــا شــفاني الحمــد للـه. ودلوقتـي بقـى عنـدي حصانـة مـن كورونـا هـه». فقلـت لـه: «شـفاكالله وعافـاك يـا غالـي، والله خضيتنـي عليـك، بـس عيالـك فيـن مـن ده كلـه؟» فقـال لـي: «عيالـي فـي القاهـرة الحمـد للـه، وأنـا هنـا وحـدي»، فقلـت لـه: «طيـب قـول لـي يـا محمـود هـو فعـا اللـي يتصـاب بفيـروسكورونـا ويخـف منـه، يصبـح عاجـز جنسـيّا وكـده؟ أصلـي أنـا أفضـل أمـوت ومبقـاش عاجـز بصراحـة...». فأخـذ يضحـك كثيـرًا ثـم عقـب أنـه «زي الفـل وتمـام خالـص، واسـأل مجـرب ولا تسـأل طبيـب». فحمـدتالله أن تلـك المعلومـة كانـت إشـاعة. تل ـك المكالمـة غي ـرت كثي ـرًا ف ـي أف ـكاري ومشـاعري ح ـول الحي ـاة وعلقت ـي بالن ـاس. حزنـت جـدّا لمـرضصديقـي، والـذي عانـى وحيـدًا مـن تلـك الأعـراض القاتلـة، ولكنـي فـي نفـس الوقـت فرحـت جـدّا لشـفائه. وكنـت خائفًـا جـدّا حينمـا كنـت أنتظـر منـه الإجابـة حــول موضــوع إصابــة الشــخص الــذي عوفــي مــن الإصابــة بفيــروسكورونــا بمــرض العجـز الجنسـي، وفرحـت جـدّا حينمـا أخبرنـي أن هـذا الـكلم ليـس لـه أسـاسمـن الصحـة وأنـه بحالـة صحيـة جيـدة، وأنـه يرغـب بالـزواج مـن امـرأة أخـرى لأن صحتـه تحسـنت. نعـم هـو يمـزح معـي، فقـد أراد أن يبال ـغ فـي طمأنت ـي. وفـي الحقيقـة، أن ـا ل ـم أكـن أسـأل خائفًـا علـى نفسـي، ولكـن الأمـر بالفعـل خطيـر وسـيؤثر علـى جيـل كامـل مـن البشـرية كلهـا، ولذلـك كان الأمـر يؤرقنـي. فهـذا الأمـر، إن كان حقيقيّـا، سـتتغير خريطـة العالـم، فمـن مـات مـات، ومـن بقـي صـار غيـر قـادر علـى الإنجـاب، ومـن هنـا تكـون الحيـاة بـا طعـم، وبـا روح، حيـث لا مسـتقبل... ولكـن الحمـد للـه أن الخبـر كان غيـر صحيـح. تلـك المكالمـة جعلتنـي وكأنـي أرى أعـراض المـرض أمامـي، وأصـدق حديـث الأطبـاء. فهـا هـو صديق ـي يؤكـد م ـا شـعر ب ـه أثن ـاء تعرضـه للإصاب ـة بفي ـروسكورون ـا: حي ـث الســعال الشــديد أو الــذي يــزداد تدريجيّــا، والصــداع الشــديد أيضًــا، وآلام الجســم غيــر المحتملــة، والإســهال المتكــرر عقــب كل طعــام وشــراب، وفقــدان الشــهية، وعــدم الرغبـة فـي عمـل أي شـيء، ونـوع مـن الاكتئـاب يسـيطر علـى المصـاب أثنـاء تلـك الفتـرة. فــي هــذه المكالمــة خفــت أن أغضــب صديقــي لــو ســألته: لمــاذا تركــت عملــك

12

بالجامعـة؟ ولمـاذا اخت ـرت اللمضمـون؟ ولمـاذا مكث ـت وحي ـدًا بعي ـدًا عـن حضـن أمـك وبل ـدك ي ـا صديقـي؟ خفـت أن أشـعره بالتأني ـب والن ـدم، وقل ـت: كفـاه مـا أل ـم ب ـه فـي الفتـرة الماضيـة، والله قـادر علـى أن يصلـح لـه حالـه. ففـي النهايـة، أنـا لا أريـد لـه سـوى الخيــر، والخيــر يكمــن فيمــا قــدره الله لنــا جميعًــا. أصبحــت أخــاف مــن المكالمــات، خشــية أن يخبرنــي أحدهــم بإصابــة قريــب أو حبيــب بالفيـروس اللعيـن. تطـور الأمـر عنـدي فصـرت أعان ـي مـن فوبيـا المكالمـات الخارجيـة، نعـم المكالمـات الخارجيـة بالـذات، وذلـك لأن أخـوي العزيزيـن التوأميـن اللذيـن يصغرانـي بعـام واحـد يعمـان مـع بعـضمـن أبنـاء العـم فـي دولـة جنـوب إفريقيـا، وأنـا أخـاف عليهــم جميعًــا خوفًــا جمّــا. ولذلــك، كلمــا أســمع جــرس التليفــون، وخاصــة نغمــة المكالمــات الخارجيــة والتــي غالبًــا مــا تكــون عبــر الماســنجر، أجــد نبضــات قلبــي قــد تسـارعت، وب ـدأت أشـعر بالإخفـاق. أصبح ـت أخـاف أن أنظـر إل ـى التليفـون وأقـول فـي نفســي، مــن ذا الــذي يتصــل علــي الآن. فتلــك المكالمــة ذكرتنــي بــكل المكالمــات السـابقة التـي تلقيـت فيهـا أخبـارًا سـيئة. تذكـرت تلـك المكالمـة التـيسـمعت منهـا خبر وفـاة أحـد إخوتـي، وتذكـرت مكالمـة أحـد أعمامـي حينمـا اتصـل بـي عبـر الماسـنجر مـن دولـة جنـوب إفريقيـا فـي الصبـاح الباكـر، حيـث اسـتيقظت علـى جـرس التليفـون، قائـا لـي: «البقـاء للـه يـا دكتـور فـي أبـو عبدللـه»! وهنـا نـزل الخبـر علـى قلبـي كالصاعقـة، وكاد قلب ـي يتوقـف! وتذكـرت تل ـك المكالمـة الت ـي علمـت منهـا أن سـعر الأرض الت ـي كنـت قـد اشـتريتها مـن عاميـن قـد انخفـض إلـى النصـف بسـبب بعـضقـرارات قانـون البنـاء الجديـد. فـي الحقيقـة، تذكـرت كل المكالمـات السـيئة التـي تلقيتهـا فـي حياتـي. وأصبحــت أعانــي مــن تلقــي المكالمــات، خاصــة تلــك التــي تحمــل رقــم دولــة أجنبيــة، أو اســم شــخص بدولــة أجنبيــة! وهــا أنــا ذا أصبحــت بصــدق مريضًــا بمــرض «فوبيــا المكالمـات الخارجي ـة» إن صـح التعبي ـر. ولكن ـي أقـول لنفسـي أحيان ًـا، قـد يأت ـي الشـفاء مـن حي ـث أت ـى المـرض، فقـد أتلقـى مكالمـة خارجيـة تغيـر مجـرى حياتـي، وتشـعرني بالسـعادة التـي أحلـم بهـا، وتغيـر فكرتـي عـن المكالمـات التـي تأتـي مـن الخـارج، حيـث الفـرج، والخيـر الكثيـر. ولا حـرج علـى فضـل الله. فاليقيــن أنــه ليــسكل المكالمــات تأتــي بأخبــار ســيئة، ولكــن توالــي الصدمــات، وآخرهـا مكالمـة صديقـي الـذي أصيـب بالفيـروس اللعيـن، جعلتنـي أخـاف أن أرد علـى أي اتصـال خارجـي. ولذل ـك أسـأل نفسـي الآن: هـل سـتأتي تل ـك المكالمـة الت ـي تحمـل ل ـي خبـر السـعادة و...؟ سـأنتظر ولـن أيـأس!

13

رمضان والكورونا فــي الليلــة التــي تســبق أول يــوم مــن رمضــان، كنــت أجلــس أنــا وإخوانــي نتســامر ونسـتعيد الذكريـات الطفوليـة الجميلـة، وكان ذلـك يحـدث فـي كل عـام. ولكـن جـاءت ميلديّـا، ولـم يكـن 2020 هجريّـا، والموافـق 1441 هـذه الليلـة مـن هـذا العـام الهجـري الحـال كمـا كان فـي السـابق. رأيــت الخــوف مــن الصيــام فــي وجــوه مــن حولــي. صــار هاجــس العطــش و«جفــاف الحلـق» يسـيطر علـى العقـول. وذل ـك لأن الجميـع يعلـم أن الحلـق هـو المنفـذ الرئيـس لدخــول الفيــروس إلــى الرئتيــن. والجميــع يعلــم مــن خــال الأطبــاء، أن نقطــة ضعــف الإنسـان أمـام الفيـروسهـي جفـاف حلقـه، ففـي هـذه الحالـة، يتشـبث الفيـروس بالحلـق لعــدة ســاعات، ثــم يتمكــن، طالمــا أن الحلــق مــا زال جافّــا، مــن الوصــول إلــى الرئتيــن، حيـث يطـور الفيـروس مـن نفسـه، ويفعـل بالإنسـان مـا يفعـل. ولهـذا صـار هـدف كل صائـم أن يبتعـد عـن الشـمس، وأن يمكـث بالبيـت، بـل ألا يتحـدث مـع أحـد، فالمهـم أن يحافـظ علـى رطوب ـة حلقـه وجري ـان ريقـه. ولكـن هـذا ممكـن لميسـور الح ـال، أم ـا م ـن اضطرتهـم ظروفهـم المعيشـية إل ـى الن ـزول إل ـى الشـارع، والتع ـرض لأشـعة الشـمس الحارق ـة، م ـن أج ـل البح ـث ع ـن لقمـة العيــش، وحتــى يســتطيعوا أن يحضــروا وجبــة إفطــار لأطفالهــم عنــد آذان المغــرب، فكيــف لهــم النجــاة مــن الفيــروس اللعيــن، الــذي لا يعــرف إلا ولا ذمــة، ولا يفــرق بيــن عابــد صائــم ولا فاجــر قاتــل. لهــمالله إذن! جـاءت تلـك الليلـة التـي تسـبق أول يـوم مـن رمضـان، ولـم نشـعر فيهـا، أنـا وإخوانـي، بطعــم ســعادة كتلــك التــي كنــا نشــعر بهــا مــن قبــل. وذلــك لأنــه لا صــاة تراويــح بالمســاجد. تلــك المســاجد التــي تســبب هــذا الفيــروس اللعيــن فــي إغلقهــا، وكأنــه شــيطان رجيــم، جــاء ليخــرب بيــوتالله العامــرة. وكلنــا يعلــم أن الحفــاظ علــى صحــة وسـامة الإنسـان مـن مقاصـد الشـريعة الإسـامية، وأن هـذه القـرارات بمنـع التجمعـات حتـى فـي المسـاجد، مـا جـاءت إلا للحفـاظ علـى «الإنسـان» الـذي هـو أهـم مخلـوق عنـد الله، والـذي لـه المقـام الأعظـم عنـد الله حتـى مـن الكعبـة المشـرفة، «فـزوال الكعبـة أهـون عن ـد الله مـن سـفك دم رجـل مسـلم»، كمـا أخبرن ـا نبين ـا محمـد صل ـىالله علي ـه وسـلم. ولذل ـك أن ـا لا أعي ـب عل ـى تل ـك القـرارات الت ـي حرمتن ـا مـن الصـاة فـي المسـاجد، ولكـن هـذا الأمـر زاد مـن كرهـي لهـذا الفيـروس اللعيـن، وأصبحـت أراه وكأنـه شـيطان

14

خفــي جــاء كــي يســلب منــا ســعادتنا الماديــة والروحيــة. فالنفــس تشــتاق إلــى صــاة التراويـح فـي المسـجد، وإلـى الطقـوس التـي كنـا نقـوم بهـا أثنـاء صـاة التراويـح، وإلـى الصحبـة، والجمـع الكريـم، وإلـى تجمعنـا عقـب الصـاة لشـرب الشـاي والقهـوة، وخاصـة لأكل الحل ـوى الرمضاني ـة الشـهيرة مث ـل «الكنافـة والقطائ ـف». حي ـث كن ـا نفعـل ذل ـك كل ليلـة بعـد الانتهـاء مـن صلتنـا فـي مسـجد البلـدة الـذي كان قريـب جـدّا مـن بيتـي. عنــد آذان المغــرب، كنــت أذهــب لأؤم النــاس فــي المســجد لصــاة المغــرب، فأجــد «أبـو عصـام» المـؤذن مـا زال يشـرب فـي العصيـر بعـد انتهائـه مـن الآذان، فأنظـر إليـه فيبتســم لــي ابتســامة خفيفــة أفهمهــا أنــا بالطبــع حيــث يجــب علــيّ أن أنتظــره حتــى يفـرغ مـن شـرب العصيـر، حتـى يسـتطيع أن يقيـم الصـاة. وكنـت أرى الجـوع فـي عيـون المصلي ـن فأخفـف فـي صلت ـي. وفـي صـاة العشـاء، كنـت أدخـل المسـجد، فأجـده ممتلئّـا عـن آخـره، والجميـع ينتظـر الصـاة، مـا بي ـن قـارئ للقـرآن، وذاكـر لل ـه، وكان هن ـاك أيضًـا مـن يهمـس حاكي ًـا مـع مـن بجـواره. فقـد كان ـت هن ـاك مجموعـة مـن الن ـاس معروفـون بحبهـم للمـزاح فـي كل الأوقـات، أمثـال «الأسـتاذ مجـدي» الـذي يحـب أن يمـزح حتـى ونحـن بالمسـجد. وكان هنـاك الجـد «حسـن عمـران» الـذي كان دائمًـا مـا يشـكو منـي لأنـي لا أجهـر بالبسـملة في الصـاة الجهريـة، وكانـت لـه كلمـة شـهيرة يقولهـا لـي أنـا ومـن يوافقنـي الـرأي: «حـرام عليكـم، لي ـه مـش بتقول ـوا بسـمالله الرحمـن الرحي ـم، يعن ـي انت ـوا بتفهمـوا أكت ـر مـن الرادي ـو؟». وكان هن ـاك أيضًـا الدكت ـور عب ـد المجي ـد، وال ـذي كان أسـتاذًا بجامعـة الأزهـر الشـريف، وال ـذي كان يمتعنـا ب ـدرس فقهـي بيـن صـاة التراوي ـح مـن كل ليلـة. وكان ـت هنـاك الكثيـر مـن الذكريـات الجميلـة التـي تدمـع لهـا العيـن ويشـتاق لهـا القلـب، والتـي ترتبــط بصــاة التراويــح فــي مســجد البلــدة. ولكنــي هــذا العــام لــم أر شــيئًا مــن هــذه المواقـف الجميلـة، حيـث لا صـاة تراويـح بالمسـاجد، ولا تجمعـات، بـل والجديـر بالذكـر أن الجـد «حسـن عمـران» قـد توفـاه الله، ولذلـك لـم يعـد رمضـان هـذا العـام مثـل الأعـوام السـابقة. فقـد فقدنـا الأحبـاب، وفرقنـا الفيـروس، ولا ملجـأ مـنالله إلا إليـه. كل هذا جعلني أكره الفيروس اللعين فوق كرهي له! كنـا نعـد وليمـة كبيـرة كل عـام. حيـث كنـا ندعـو لهـا كل أصحابنـا، ومعارفنـا، وجيراننا، وبالطبـع فقـراء البلـدة فـي إفطـار جماعـي. وكان هـذا اليـوم هـو أسـعد يـوم بالنسـبة لـي، فعلـى الرغـم مـن أنـي لا أسـتطيع أن أتنـاول إفطـاري إلا بعـد صـاة العشـاء، بسـبب وقوفـي أنـا وإخوانـي حـول المائـدة لخدمـة المدعويـن علـى الإفطـار، إلا أننـي كنت أشـعر

15

بقمـة السـعادة لرؤيـة هـذا الإفطـار الجماعـي أمـام بيتنـا. فيظل أبـي الغالـي -حفظهالله- يمـزح مـع النـاسفـي هـذا اليـوم كثيـرًا. وكنـت أرى السـعادة فـي عينيـه لأنـه كريـم جـدّا ويحـب تجمـع النـاسضيوفًـا عندنـا، كمـا أنـه حريـص جـدّا علـى أن تقـام هـذه الوليمـة كل عـام فـي الأسـبوع الأخيـر مـن رمضـان. وهـذا مـا يفسـر حـزن أبـي الشـديد فـي هـذه الأيـام، حيـث لا وليمـة، لا صـاة تراويـح، لا تجمعـات، وهـو رجـل اعتـاد علـى أن يكـون بيتنـا عامـرًا بالضيـوف. فأنـا لـم أرىطيلـة حياتـي بيتنـا بـا ضيـوف، ولـو ليـوم واحـد. ولكـن جـاء فيـروسكورونـا كـي يجعـل أبـي الغالـي يشـعر بالحـزن. بـل جميعنـا صـار يشـعر بالحـزن. ظهـر لنـا الفيـروس بمظهـر العـدو. فلقـد جفـف البسـمات علـى وجوهنـا، فلـم يبـق لنـا مـن مظاهـر رمضـان إلا تجمعـي أنـا وأبـي وإخوانـي علـى المائـدة فـي الإفطـار. ولكـن ربمـا تكـون هـذه فرصـة لنـا. فنحــن نســتطيع فــي هــذا العــام أن نختلــي بأنفســنا، وأن نســتمتع ببعضنــا البعــض، فلقــد كانــت كثــرة الضيــوف تحــول دون أن نجلــسســويّا أنــا وأبــي وإخوتــي، وكنــا لا نسـتطيع أن ننفـرد بأنفسـنا مـن زحـام النـاسفـي بيتنـا والـذي كان لا ينقطـع أبـدًا. وذلـك لأن أبـي رجـل محبـوب مـن ناحيـة، ولأن أخـي «محمـود» يمـارس مهنـة العـاج الطبيعـي، وكان مشـهورًا جـدّا لمهارتـه، فتأتـي إليـه النـاس المرضـى مـن كل أنحـاء البلـدة، ومـن ثــم كان أبــي يعاملهــم كضيــوف، ثــم يصبحــوا أصحابًــا لنــا بســبب المعاملــة الكريمــة. ولهـذه الأسـباب تجـد أن بيتنـا عامـر دومًـا بالضيـوف. ومـا أجمـل الضيافـة والصحبـة فـي رمضـان. جعلن ـا الفي ـروس نمكـث فـي بيوتن ـا، وتل ـك كان ـت فرصـة جي ـدة كـي نختل ـي بأنفسـنا، وكـي نصلـي جماعـة فـي بيتنـا، وكـي نقـرأ القـرآن سـويّا. لقـد حولنـا الأمـر، بفضـلالله، إلـى منفعـة بـدل مـن أن كنـا نعتبـره ضـررًا وخسـارة. لقـد أصبحنـا نقـرأ القـرآن أكثـر مـن الأعـوام السـابقة حيـث لا زحـام هـذا العـام. وأصبحـت أسـتطيع أن أجلـسمـع أبـي وأمـي بعــد صــاة العشــاء طويــاً، حيــث آكل الحلــوى الجميلــة التــي تصنعهــا أمــي الغاليــة، وأحتسـي فنج ـان القهـوة م ـع أب ـي، وأتسـامر بعـض الشـيء م ـع أخت ـي الصغي ـرة. ف ـي الحقيقـة، هـذه نعمـة أيضًـا، أننـا اسـتطعنا أن نتجمـع سـويّا ونقضـي أوقاتًـا ممتعـة مـع أفـراد أسـرتنا. وقـد تكـون هـذه هـي الفائـدة الوحيـدة التـي جلبهـا لنـا فيـروسكورونـا، وهـي أن نجـد أنفسـنا بعيديـن عـن زحـام الآخريـن! وهنـا تذكـرت أنـه قـد تكمـن الرحمـة داخـل البـاء ونحـن لا نـدري. وتذكـرت قـول النبـي صـلاللهعليـه وسـلم: أن أمـر المؤمـن كلـه خيـر. كما تذكـرت أن هـذا الفيـروس الصغير

16

الـذي لا يـرى بالعيـن المجـردة مـا هـو إلا جنـد مـن جنـودالله، جـاء لمهمـة محـددة، وهـو مأمـور، ولي ـس ل ـه مـن الأمـر شـيء. وهن ـا حضرتن ـي مقول ـة لسـيدة عج ـوز قال ـت: «ي ـا ول ـدي الفي ـروس ده ن ـازل ومعـه كشـف بأسـماء الن ـاس الل ـي هيصيبهـا، والل ـي مـش فـي الكشـف عمـره مـا هينصـاب أبـدًا...». نعـم، وهـذه مقولـة تلخـص لنـا أن قضـاء الله نافـذ لا محالـة، وأن كل شـيء بقـدر، وأنـه لـن يصيبنـا إلا مـا كتـبالله لنـا، فهـو مولانـا، وعليـه يجـب أن نتـوكل، ونلجـأ، ونتضـرع أن ينجينـا مـن فيـروسكورونـا ومـن كل داء!

17

في انتظاراليسر يزة � إيمان العزا ين � عضو الملتقى القطري للمؤلف

مسـاء التاسـع مـن شـهر آذار، النشـرات الإخباريـة تضـج بصـور جرافيكيـة لكـرةٍ خضـراء بنت ـوءات تمث ـل شـكلً متخي ـاً لفي ـروس الكورون ـا، رسـائل الواتسـاب ومقاطـع مرئي ـة كوميديـة، كلهـا تـدور حـول شـيء واحـد هـو الكورونـا. ثـم تصلنـي إشـعارات مـن العمـل ومـدارس أطفالـي تُعلمنـا بـأن الدراسـة قـد أجلـت إلــى إشــعارٍ آخــر، إجــراءاتٌ ســريعة ومؤتمــر صحفــي للولــوة الخاطــر تشــرح إجــراءات دولـة قطـر الاحترازيـة، تشـرحها بلغـة بليغـة ومخـارج حـروف أوضـح مـن السـماء فـي ليلـة صيـف فتسـلب ألبابنـا. مضي ـتُ متجهـةً إل ـى عمل ـي والشـوارع ق ـد ب ـدأ يظهـر عليهـا أث ـر انقطـاع الطلب ـة عـن الدراسـة، ثـم جـرى تجهيزنـا ككـوادر تعليميـة لمحاولـة التواصـل عـن بعـد دعمًـا للتعلي ـم، وكان ـت إجـازة الربي ـع. انقضـت إجازتنـا الربيعيـة سـريعًا وقـد زادت معلوماتنـا التوعويـة عـن الكورونا، كنـا ننتظر تعميمًـا يدلنـا علـى الإجـراءات التاليـة، وهـل سنباشـر عملنـا مـن المنـزل أو من المدرسـة؟ جـاء يـوم الأحـد ومضينـا للمدرسـة تغطـي وجوهنـا الكمامـات وكفوفنـا القفـازات، اجتمعنـا متباعديـن وأُخبرنـا أننـا سـنُفعّل التعلـم عن بعـد وسـنتواصل ببرنامـج «التيمز» وانفضـت الجلسـة بعدهـا، كل شـيءٍ كان يبـدو سـريعًا. وكان يـوم الإثنيـن ولأول مـرة نجـرب فيهـا التعليـم عـن بعـد، أصبحـت المدرسـة فـي منـازل الطـاب ومعلمتهـم فـي شاشـةٍ تبعـد عنهـم كيلـو متـرات، لـم يعـد عليهـم أن يرفعـوا أيديهـم للإجابـة، العالـم بالنسـبة لهـن تحـول لبرنامـج محادثـة كبيـر، التعزيـز أصبـح بلغـة الإيموجـي وبملصقـات كرتونيـة وكلمـاتٍ عـن بعـد. تشـاركتُ الدوريـن؛ دور الأم ودور المعلمـة، أجلـس لطلبـي وأوجـه أبنائي لدراسـتهم، وأفـرح لإنجـاز كل الفريقين.

18

مضـت ثلثـة أسـابيع وبـدأ الأطفـال يتململـون، يفتقـدون نـوادي الرياضـة وسـاحات اللعــب وأصدقاءهــم، فمــا كان منــي إلا أن عمــدت لطلــب مجموعــةٍ جديــدة مــن القصــص والكتــب لأطفالــي، وبعــض الألعــاب الجماعيــة، والأدوات الفنيــة. وبــدأت أقــدم لهــم فقــراتٍ ترفيهيــة ومســابقاتٍ يوميــة، صممنــا ســويّا جــدار الإنجــازات، وتسـابقنا فـي أن يقـرأ كل منـا كتابًـا يلخصـه فيسـرده ويشـرح مـا أعجبـه فيـه مسـاء كل ســبت. أمـا ألعابنـا الجماعيـة فكان ـت الشـطرنج والمونوبول ـي ولعبـة أخـرى علـى شـاكلتها باسـم سـيرة الرسـول صلـىالله عليـه وسـلم. أمـا أنـا فقـد اسـتأنفت نـادي القـراءة الخـاص بـي فاجتمعنـا علـى برنامـج الـزوم نحـدد كتابًـا أو اثنيـن ويناقشـه أحدنـا ونتداولـه جميعًـا. كان الوقـت عمل ـةً متاحـةً؛ إمـا أن نسـتثمرها لمـا بعـد الأزمـة أو أن نهدرهـا، لكننـا فضلن ـا أن نسـتثمرها ونضـرب في ـه سـهام إنجازهـا، ب ـدأت بتكثي ـف مراجعات ـي للكت ـب فــي حســابي علــى الإنســتغرام، وأنهيــت ثــاث دورات تدريبــة أصبحــت بالمجــان علــى منصـة الجزي ـرة للتعل ـم الإلكترون ـي، وشـرعت فـي كتاب ـة رواي ـةٍ جدي ـدة. يومًـا بعـد يـومٍ كنـا نعتـاد علـى الأمـر أكثـر لكننـا بدأنا نخـافُ، فأعـداد المصابيـن بدأت تـزداد أكثـر، إلـى أن طمأننـا ذاك المؤتمـر الصحفـي بـأن مسـاحة البحـث قـد اتسـعت، وبـدأ الفحـصوبيانـات المخالطيـن بالمصابيـن تتسـع، فيتـم الفحـص الاحتـرازي. أغلقـت الأماكـن العامـة والحدائ ـق والشـواطئ والمحـات التجاري ـة أمـام مرتاديهـا وأبقيـت مراكـز بيـع الأغذيـة، وشـددت الاحتـرازات الصحيـة والأمنيـة، واسـتجاب عمـوم النـاس علـى الفـور، فقلمـا تجـد مـن لا يرتـدي قفـازاتٍ أو كمامـات، وهيئـت مراكـز بيـع الأغذيـة بملصقـاتٍ تحـدد مسـافة أمـانٍ بيـن كل زبـونٍ وآخـر. بدأن ـا نعت ـاد الأمـر أكث ـر فأكث ـر وكن ـا نتضـرع لل ـه أن يتولان ـا برحمت ـه وأن تنجل ـي عن ـا هـذه الغُمـة، وأن يب ـدلالله خوفن ـا آمن ًـا. بـدأت أغلـب الخدمـات والمعامـات تتـم عبـر تطبيقـاتٍ إلكترونيـة، مثـل دفـع الفواتير وشـراء البضائ ـع، وإتمـام أغلـب المعامـات، حتـى أننـي أرسـلت هدي ـةً وصندوقًـا مـن الحلـوى لصديقتـي، وتواصلـت مـع طبيبـي عبـر تطبيـق خـاص، فدبـر لـي موعـدًا علـى برنامـج اتصـالٍ مرئـي. كان يومـي يبـدأ بالعمـل مـن المنـزل ومتابعـة دروسصغـاري، ثـم التحضيـر لطعـام

19

الغـداء، والجل ـوس للقـراءة، ومـن ث ـم مشـاهدة برنامـجٍ مشـترك مـع عائلت ـي، فبدأن ـا بمسلسـل التغريب ـة الفلسـطينية للدكت ـور ولي ـد سـيف، فـا أبل ـغ مـن رواي ـة القصـة بطريقــةٍ دراميــة، ثــم انتقلنــا إلــى مسلســل عمــر الــذي أنتجــه تلفزيــون قطــر منــذ سـنوات وكتبـه د. وليـد سـيف، فبكينـا الصحابـة واحـد تلـو الآخـر، ثـم انتهينـا إلـى ربيـع قرطبـة ورأينـا كيـف كان طمـوح محمـد بـن أبـي عامـر جامحًـا، هـذه البرامـج وعـددٌ لا ب ـأس ب ـه مـن وثائقي ـات نتفليكـسكان ـت الن ـار الت ـي نتحل ـق حولهـا مسـاء كل ي ـوم أن ـا وأطفال ـي، تنتهـي فتب ـدأ نقاشـاتنا وأسـئلتهم، نمـ وقتن ـا بالفائ ـدة ونتقـرب مـن بعضنـا أكثـر. لمــى ابنــة الســنوات التســع انتهــت مــن لوحــاتٍ رســمتها، واتجهــت لقــص الأوراق الملون ـة لتصن ـع فواني ـس ونجـوم تزي ـن بهـا البي ـت مـن أجـل رمضـان، كان شـريكها المشـاكس الصغي ـر ابن ـي إي ـاس ذا السـنوات الخمـس، أمـا أوي ـس فقـرر أن ـه الوقـت المناسـب ليتعل ـم لغـةً جدي ـدة، مـا لب ـث أن رجـع فـي كلمـه بعـد يومي ـن. قـررت أن أجذبهـم جميعًـا للقـراءة بشـغف، كنـت أختـار عـددًا مـن القصـصوالكتـب وأضعهـا فـي سـلةٍ وسـط مجلسـنا وأضـع علـى لـوحٍ مغناطيسـي ثبتـه علـى الحائـط عـددًا مـن الأسـئلة، كانـت كل قصاصـةٍ تحمـل سـؤاً جوابـه موجـودٌ فـي إحـدى هذه القصـص، مـا كان عليهـم إلا أن يقـرأوا إحـدى هـذه القصـص أو الكتـب ليعثـروا علـى الجـواب، أمـا الجوائـز فكانـت نقديـةً يختـارون بقيمتهـا ألعابًـا أو أشـياء يرغبـون فيهـا عبـر أحـد التطبيقـات. أصبـح تعاملنـا مـع التطبيقـات الذكيـة لمختلـف أنـواع الخدمـات، وبدأنـا نتخلـى عـن عـددٍ مـن التفاصي ـل الكمالي ـة فـي حياتن ـا، فيب ـدو أن سـلوكياتنا سـتتغير بعـد هـذه الأزمـة. مضـت الأيـام واقتـرب الشـهر الكريـم، تشـاركنا فـي تزييـن المنـزل، واتخذنـا زاويـة فـي منزلن ـا كمصل ـى، زاد صـف صلتن ـا ف ـردًا هـذا الع ـام، فالجميل ـة لمـى أكمل ـت ربيعهـا التاسـع، طيبـت ملبـسصلتهـا وتجهـزت لتكـون مـن الصائميـن والمصليـن، اجتمعنـا لنرتـب جدولنـا فـي الشـهر الفضيـل. سـيكون شـهرنا الفضيـل روحانيّـا بامتيـاز، بعيـدًا عـن ازدحـام المجاملت والاسـتقبالات العائليـة، ولأضيـف عليـه مسـحةً مـن الـدلال لعائلتـي أخبرتهـم أننـي أود أن أقـدم لهـم قائمـة طعـامٍ خاصـة بهـم للشـهر الفضيـل، قائمـة كتلـك التـي تُقـدم فـي المطاعـم

20

الراقيـة أُنسـقها وأرتبهـا بأبـواب معنونـة طبـق رئيسـي ومقبـات وشـوربات وحلويـات، جلسـنا وتشـاورنا وأعددناهـا، أصبـح كل شـيء جاهـزًا لاسـتقبال الشـهر الفضيـل. جلســت أطيــب مصاحــف المنــزل وأحــدد صاحــب كل مصحــف كيــا نهجــر أحدهــا، وعلقـت المصابيـح وجهـزت الطيـب والعـود الفاخـر، كل هـذا مـن بـاب تعظيـم شـعائر الله، ويقينًـا ب ـأن الشـهر الفضيـل فـي هـذه الظـروف سـيكون نعمـةً ربانيـةً مـنالله عـز وجـل. كانـت فرحتنـا بقـدوم الشـهر الفضيـل مضاعفـة، كنـا نحتـاج للفـرح والتعلـق بتباشـير التفـاؤل علـى الرغـم مـن أن لغـة الأرقـام المُعلنة حـول عـدد الإصابات أخـذت تتضاعف، لكـن إيماننـا بالل ـه وأن اليسـر ردي ـف العسـر وأناللهسـيفرجها علينـا، عـزّز مـن يقيننـا بـأن الفـرج قريـب. وهـا نحـن الي ـوم قب ـل سـاعاتٍ مـن أول أي ـام السـحور نترقـب أي ـام اليسـر بكفـوف مرفوعـةٍ للسـماء، فاللـه رحمـنٌ رحيـم، وحـده رب النـاس مـن سـيذهب عنـا البـأس إن شـاء الله.

21

الخطى و إدراك مها تسنيم محمود » 2020 الأديب للشباب « مرشحة للفوزفي مسابقة

2020-3-27 جلسـت مهـا فـي حجرتهـا بعـد أن غابـت شـمس يـوم الجمعـة الموافـق وفــي عينيهــا الزرقاويــن دمــوع خجلــت مــن الانهمــار مــن روعتهــا، وقلــب اعتــاد أن يكـن بداخلـه خبايـا الماضـي وذكرياتـه السـعيدة، ولكنـه أرغـم علـى السـكون فأصبـح كجب ـل اعت ـاد عل ـى الصمـود. ب ـدأت أناملهـا تتحـرك بب ـطء ناحي ـة تل ـك العلب ـة الوردي ـة المخبــأة تحــت ســريرها منــذ أمــد بعيــد، دقــات قلبهــا تتســارع ونبضهــا يــزداد قــوة. تلـك العلبـة مـا هـي إلا مجموعـة رسـائل مـن صديقـة مهـا المقربـة سـارة، تبـث فـي نفسـها البهجـة كلمـا صفعتهـا الحيـاة صفعـة مـن حدي ـد. ب ـادرت مهـا باكتشـاف الخباي ـا المكنون ـة فـي تل ـك العلب ـة. فزع ـت فـي بادئ ـة الأمـر بمـن يشـاركها رسـائلها، فحالمـا نزعـت الغطـاء، عـرف عنكبـوت طريـق النـور إلـى خـارج العلب ـة، والمضحـك فـي الأمـر أن ـه ل ـم يكـن يعي ـش بمفـرده فقـد تبعـه آخـر. حينمـا شـاهدت مهـا تل ـك الواقعـة انفرجـت أسـاريرها أخي ـرًا فل ـم ي ـرى أحـد ابتسـامتها من ـذ أسـابيع. بـدأت مهـا فـي اسـتجماع قواهـا لتمسـك بـأول رسـالة لتزيـح عنهـا غبـار الأيـام وتبـدأ بقـراءة السـطور الأولـى المعنونـة بـ«كلمـات ذهبيـة فـي أزمـات قويـة» وكأن سـارة صديقتهـا تشـاطرها روحهـا. «مهـاااا. آمـل أن يكـون قـد مـر دهـر منـذ أن قـرأت رسـالتي الماضيـة لأنـي أتمنـى كل الخيـر وجلـه لـك ولعائلتـك الكريمـة التـي أعشـقها كعائلتــي تمامًــا. ســام عليــك وإليــك. ســام منــا وإليكــم بــكل الــود يشــاطركم وبـكل الخيـر يبشـركم. لعلـي أكتـب تلـك الرسـالة وأنـت تقرئينهـا لسـبب أجهلـه ومـن أجلـه تعاهدنـا أن أكتـب لـك تلـك الرسـائل، تقرئينهـا حيـن تحتاجيـن لـي بجانبـك. اعلمـي أنـي حفظـت تضاريـس وجهـك ومعالمـه فقـد مـر علـى صداقتنـا عشـرون عامًـا لـم أشـعر بهـا مـن روعتهـا. أصبحـت كخارطـة طريـق أهتـدي بهـا فـي عالمـي وأدرك أنـك الآن كورقـة شـجر حـل عليهـا الخري ـف، ذابل ـة وصفـراء ولكنن ـي أؤمـن بأن ـك كجب ـل لا تهزمـه الريـاح بـل جبـل شـامخ يـا مهـا تهابـه الذئـاب. أعلـم أننـي مـا زلـت بعيـدة عنـك، وتشـعرين بأسـى العالـم وتأبيـن الـكلم، أعرفـك يـا صديقتـي، ولـو كانـت بيننـا أميـال.

22

مـا زلـت بعيـدة مـن أجـل ذلـك تحمليـن رسـالتي بيـن أصابعـك الرقيقـة ولكنـي قريبـة منـك كقـرب الجنيـن لأمـه». بــدأت مهــا تنهمــر بالبــكاء فقــد وجــدت الدمــوع مخرجًــا مــن عينيهــا، ولكنهــا تماسـكت لتقـرأ سـطور سـارة الذهبي ـة الت ـي تحي ـي الأمـل وتشـفي الج ـروح. عـاودت مهـا الإمسـاك بالرسـالة واحتضنتهـا بقـوة «لتعلمـي يـا عزيزتـي أنـي لـم ولـن أرى فتـاة بشـموخك وام ـرأة حالمـة مثل ـك فاسـعي ي ـا أمي ـرة القل ـوب وامضـي قدم ًـا، فحتمًـا سـيبحث التاريـخ عنـك كمـا تفعليـن لتسـطعي بيـن أيامـه. دعينـي أذكـرك بيـوم سـعيد بيننـا، عـلّ ذلـك يفـرح قلبـك الصغيـر. تذكريـن يـوم خِطْبَتِـكِ حينمـا لـم يسـتطع أحمـد التفريـق بيننـا، بيـن عروسـه وصديقتهـا» هنـا تحولـت دمـوع مهـا لضحـكات متتاليـة وكأن وجههــا قــد نســي كيفيــة الابتســام وكأنهــا امتلكــت العالــم مــن جديــد. «يقولـون الأصدقـاء يمتلكـون نفـس الصفـات وربمـا يتشـابهون أيضًـا ولكنـك ولـدت لتكونـي أختـي التـي لـم يقدرهـا الله لـي. اعلمـي أنـي دائمًـا بجانبـك ولـو تمسـكتِ بذلـك الـرأس العنيـد الـذي يخفـي العالـم بداخلـه ليحـول بينـه وبيـن ألـم الآخريـن. املئـي حياتك بالتفـاؤل يـا صديقـة العمـر وأمـل الـدرب. كـم أشـتاق إليـك وتنهمـر دموعـي مـع كل كلمـة أكتبهـا وكأنهـا تأخـذ مـن أنفاسـي. سـامحيني فـكل يـوم يمضـي دونـك هـو عــذاب لــي وأتمنــى عودتــك قريبًــا. أخبرتنــي أنــك ســتعودين قريبًــا وســتعود البهجــة لأيامنـا بزفافـك، كـم أتمنـى مـرور الأيـام سـريعًا لأصبـح إشـبينة أجمـل عـروس بالكـون، عـروس خجـل الـورد مـن جمالهـا ونافسـت القمـر فـي مكانـه...». لــم تســتطع مهــا إكمــال الرســالة فقــد هجمــت عليهــا الهمــوم هجمــة الرجــل الواحـد واعتلتهـا آهـات وذكريـات قـد نغصـت عليهـا حياتهـا. تذكـرت أنهـا كانـت تعـد لزفافهـا من ـذ أي ـام قليل ـة ماضي ـة مـع أحمـد، شـريك العمـر كمـا يقول ـون... سـرحت مهــا بخيالهــا فمنــذ أيــام قليلــة مضــت اختــارت مهــا فســتان زفافهــا مــع والدتهــا وصديقاتهــا اللتــي هممــن بالتصفيــق والبــكاء حالمــا انتقتــه، فلــم تتــرك ســوقًا بالدوحــة إلا وقــد تركــت بصمتهــا عليــه بــدءًا مــن ســوق الجمعــة، وســوق واقــف إلـى المـولات التجاريـة كفيلجيـو وسـتي سـنتر بـل وقـد قطعـت طرقًـا وأشـواطًا فـي ســبيل نيــل فســتان الأحــام حتــى حصلــت عليــه مــن مدينــة الشــمال بقطــر. عــادت مهـا لتكمـل رسـالتها المنشـودة مـن سـارة «حـذارِ أن تخب ـري محمـدًا ب ـأي تفاصي ـل للزفـاف، فهـو صديـق أحمـد ويطلعـه علـى كل شـيء. لنجعلـه يومًـا مميـزًا بـل أيـام أفـراح مـاح فلدينـا عـروس الدهـر» توقفـت مهـا لتتذكـر كـم يومًـا قـد مضـى منـذ

23

أن قـد رأت أخاهـا محمـدًا. فعل ـى صعي ـد آخ ـر يسـكن محمـد أخ ـو مهـا فـي أمري ـكا حيــث يكمــل دراســته الجامعيــة لينــال لقبًــا فخريّــا كونــه طبيبًــا، فقــد غــادر مدينــة الدوحــة بعــد ســنوات طــوال ع ـاش فيهـا ونهــل مــن علــم أسـاتذتها وم ـن خيرهـا الوافـي الـذي لا يختلـف عليـه أحـد. هرعـت مهـا لتـدون مـا أملتـه عليهـا سـارة وبـادرت لتقـرأ مـا تبقـى مـن سـطور الرسـالة «لا أعلـم مـا سـتفعله والدتـك فحتــمًا سـترقص فـي ليلـة عرسـك عكـس عادتهـا، لا تسـيئي فهمـي فقـد تخيلـت والدتـك أمامـي الآن. لا تنسـي إحضـار الحن ـة معـك!!!» ع ـادت مهـا لتكت ـب م ـن جدي ـد وهـي تهمهـم أم ـا يمكنـك أن تدونـي ذلـك يـا سـارة، تحبيـن إتعابـي ولكنـك جوهـرة قلبـي. سـمعت مهـا صـوتضجيـج بالخـارج وأصـوات همهمـة وكأن حديثًـا سـريّا يـدور بالخـارج بيـن والدتهـا وأحــد مــا. «قــد يكــون محمــد كالعــادة فــا تبــرح أمــي الحديــث معــه». أم محمــد، هــي امــرأة أربعينيــة، كرســت حياتهــا لأولادهــا ومســتقبلهم وتدعــو اللهكل ليلــة أن يجمعهـا الله ب ـكل أولادهـا تح ـت سـقف واحـد، ب ـل وت ـردد كل عي ـد مي ـاد أمني ـة واحـدة أن يمـنالله عليهـا ببي ـت كبي ـر لتجمـع كل أولادهـا في ـه. «أمـي هـل ل ـك أن تخفضـي الصـوت قلي ـاً إذا سـمحت فإن ـي أحـاول التركي ـز» صرخـت مهـا بصـوت عـال لتسـمعها والدتهـا، وعلـى إثـره انخفـضالصـوت. تذكـرت مهـا أن أمهـا ترقـد كل ليلـة مترقبـة عـودة ابنهـا محمـد وتحتضـن صورتـه كأنهـا لـن تـراه مجـددًا، وعندمـا يسـألها أحـد تنهمـر العيـون باكيـة علـى أمـل اللقـاء يومًـا مـا، فدعـت لأمهـا بالعمـر المديـد والصحــة الوفيــرة. نســيت مهــا أيــن توقفــت فــي الرســالة فعــادت لتبحــث عــن آخــر الكلمـات علهـا تجـد ضالتهـا. واصلـت مهـا «أريـد أن أخبـرك سـرّا. إننـي فخـورة بأختـك جـدّا وأدعـو لهـا كل ليلـة فقـد خلصتنـي مـن ألـم أسـناني المبـرح الـذي بـات لا ينفـك عنـي. أسـتطيع أن آكل الشـوكولاتة والحلـوى المفضلـة لـدي أخيـرًا» ردت مهـا كأنهـا تحـادث سـارة: لا تكثـري منهـا، أعلـم حبـك لهـا الـذي سـيقتلك. نهـى، أخـت مهـا هـي طبيب ـة أسـنان تهـوى عملهـا، تركـت بي ـت العائل ـة من ـذ أن تزوجـت وغـادرت الدوحـة وقـد كان مـن المفتـرض أن تعـود لزيارتهـم هـذا الصيـف لمـدة أسـبوع مـع زوجهـا، لكـن حـدث مـا لـم يكـن بالحسـبان، فقـد اجتـاح فايـروسكورونـا دول العالـم وبـات يهـدد الجميـع وللحـد منـه تـم اتخـاذ إجـراءات احترازيـة كان منهـا تعطيـل السـفر مـن وإلــى الــدول المجــاورة. أرادت مهــا نســيان كل الأحــداث المرتبطــة بذلــك الفايــروس فقــد لجــأت لغرفتهــا بحثًــا عــن الراحــة والســعادة ولتقطــع ذلــك التفكيــر، أمســكت بالرسـالة مج ـددًا لتلمـح شـيئًا ل ـم ت ـره مـن قب ـل. كان ـت هن ـاك قل ـوب حمـراء تظهـر بتسـليط الضـوء عليهـا ممـا أعـاد للرسـالة رونقهـا حت ـى بعـد أن تركـت تحـت السـرير

24

لأيـام عـدة. «ختامًـا أريـد أن أخبـرك أننـا بصـدد احتفاليـن كبيريـن؛ التخـرج مـن الجامعـة وزواجـك الميمـون فهنيئ ًـا لن ـا وهنيئ ًـا ل ـك مرتي ـن. دائمًـا تتفوقي ـن عل ـي. ول ـدي خب ـر آخـر لـك علـه يسـعد أيامـك. اتفقـت مـع والديـك ووالـدي بـأن أكـون حاضـرة لحضـور حفــل تخرجــك مــن جامعــة قطــر، فأنــت أعظــم خريجــة لــدي وســنحتفل حتمًــا بتلــك المناسـبة ونلتقـط العديـد مـن الصـور دون اعتـراض منـك أيتهـا العنيـدة التـي تكـره التقـاط الصـورة وبعـد مـرور أيـام ترسـلين لـي بحثًـا عـن الصـور. لاختصـار البحـث عنهـا، أرسـلت ل ـك ألبوم ًـا يح ـوي صـورًا عدي ـدة لن ـا من ـذ أن كن ـا صغـارًا. لا تقلق ـي ل ـن أريهـا لأحـد حفاظًـا علـى المعرفـة بيننـا وبينهـم. أرى ابتسـامتك مـن هنـا وأسـنانك الناصعـة أيضًـا علـى دعابتـي. ولكـن علـى غيـر العـادة لـم تكـن مهـا تبتسـم ولـم تغـدُ كذلـك فقـد خيبـت آمالهـا فربمـا يُلغـى حفـل التخـرج كحـال حفـل الزفـاف وحـال تذكـرة سـفر أختهـا وأخيهـا وحـال عمـل أختهـا أيضًـا، ولكنهـا تبسـمت لبرهـة فهـي فخـورة بأبيهـا بـل وخائفـة أيضًـا عليـه فهـو يعمـل دون كلـل أو ملـل كطبيـب جراحـة فـي قسـم الطــوارئ بمستشــفى حمــد ويتعــرض للعديــد مــن المخاطــر وفــرص الإصابــة بذلــك الفاي ـروس ال ـذي أصب ـح عـدو مهـا لتدمي ـره لحياتهـا وخططهـا أيضًـا». تنهــدت مهــا قليــاً وقــررت إكمــال مــا بدأتــه. «أراك قريبًــا يــا أختــي ودمــت بخيــر وأسـرتك الكريمـة قبـات وتحيـات للجميـع». سـمعت مهـا صـوت طـرق بـاب غرفتهـا فهمـت بطـي الرسـالة وخبأتهـا بمكانهـا، فقـد أخفـتسـر تلـك الرسـائل بداخلهـا. دخل والـد مهـا الغرفـة ليلقـي عليهـا التحيـة مـن بعيـد خشـية أن يصيبهـا «لا قـدر الله» فـي حالـة حملـه للفايـروس جـراء تعاملـه مـع المرضـى. تبسـمت مهـا وكأن وميـض نـور قـد أنـار عتمتهـا وأدركـت أن الامتنـان يكمـن فـي شـكر النعمـة فهـي مـا تـزال بجـوار مــن تحبهــم، بــل وتحــت ســقف واحــد، وفــي بلــد يرعــى أهلــه وزواره. تذكــرت مهــا كــم كرهــت أيــام الجامعــة والذهــاب كل يــوم دون رؤيــة عائلتهــا فتداركــت ســوء التفكيـر فـي الأمـر وعزمـت علـى قضـاء المزيـد مـن الوقـت بجوارهـم والشـعور بـدفء العائلـة. غـادر والدهـا الغرفـة بعـد أن سـرقهما الحديـث الشـيق قليـاً بعـد أن طلـب منهـا تحقيـق رغبتـه فـي الانضمـام إليهـم علـى وجبـة العشـاء. غابـت مهـا بذاكرتهـا قليـاً؛ كيـف حـان وقـت العشـاء؟ فقـد مضـى وقـت طويـل علـى وجودهـا بالغرفـة شـاردة بأفكارهـا. تناول ـت مهـا قائمـة المهـام الت ـي أوصتهـا بهـا سـارة لأن ـه حتمًـا ســتنجلي الغمــة وســيعود الوضــع أفضــل ممــا كان. أضافــت إلــى القائمــة مهــام لتغيي ـر ال ـذات واغتن ـام الفرصـة ف ـي تطوي ـر ال ـذات واكتسـاب المهـارات والتخطي ـط

25

لحياتهــا الشــخصية والأكاديميــة أيضــا. غــادرت مهــا غرفتهــا داعيــة المولــى «إلهــي أريتنـا قدرتـك فأرنـا رحمتـك» وأكملـت تدنـدن «سـأتخرج وأتـزوج قريبًـا وسـيجتمع شـملنا أيضـا بـإذنالله، هـذه المـرة علـى أرض حقيقيـة وليـس بوسـائل التواصـل الاجتماعـي. سـأكمل طريقـي... ولكـن عشـائي الأهـم حاليّـا، فإننـي أتضـور جوعًـا».

26

يق النجاة � شباب في طر جنى محمود »2020 مشاركة في مسابقة «الأديب للشباب

هـا هـي العن ـود تجل ـس عل ـى رمـال شـاطئ الوكـرة ال ـذي يفي ـض جمـاً وحيوي ـة. لترمـي كل مـا يشـغل عقلهـا ويؤلـم قلبهـا فـي البحـر. ملمـح وجههـا تبتسـم وهـي تـرى الأطفـال يركضـون ويلعبـون. كـم تحـب العنـود مشـاهدتهم، فهـم يسـتمتعون باللحظــة الراهنــة بــكل حواســهم ولا يخيفهــم المســتقبل. وضعــت العنــود رأســها علـى الرمـال ولـم تهتـم إن كان ذلـك يمـ حجابهـا الأسـود وعباءتهـا الجديـدة بالرمـال. اسـتلقت لتسـمح للرمـال بـأن تسـرق طاقتهـا السـلبية. تمنـت روحهـا بـأن يبقـى الحـال جمي ـاً هكـذا، ولكـن مـا طعـم الدني ـا إن ذقن ـا حلوتهـا فقـط؟ التفت ـت العن ـود إل ـى يمينهـا وإذا بطفـل يفقـد وعيـه علـى المنـزل الرملـي الـذي قـام بصنعـه مع أبيـه. الأم تركـضصارخـة مرتعب ـة أكاد أن أشـعر برجفـة قلبهـا وسـرعة نبضات ـه! كان السـؤال الوحيـد الـذي يسـيطر علـى تفكيرهـا هـو «لمـاذا حصـل ذلـك؟». بعــد لحظــات وصلــت ســيارة الإســعاف. وقــد ظنــت العنــود بــأن الطفــل فقــد وعي ـه لأن ـه مري ـض أو أن ـه أصي ـب بضرب ـة شـمس. ذهب ـت مسـرعة نحـو الأم لتهـدئ مــن روعهــا. أتــى المســعف وأخــذ الطفــل مــن أمــه بســرعة واضعًــا كمامــة علــى وجهـه وقـام باصطحـاب كل مـن بقـرب الطفـل وبالتأكي ـد كان ـت إحداهـم العن ـود. أجبــروا جميعــا علــى وضــع الكمامــات وارتــداء القفــازات. وفــي طريقهــم للمشــفى قامـت العن ـود بسـؤال المسـعف وقال ـت: «مـاذا هن ـاك؟ ولمـاذا طلبت ـم من ـا وضـع الكمامـات؟» فقـال المسـعف: «بسـبب جائحـة فيـروس مـن فصائ ـل الكورون ـا ال ـذي فـي الصيـن وهـو سـريع الانتشـار. لقـد فحصنـا الطفـل 2019 بـدأ انتشـاره منـذ نوفمبـر وكمـا توقعن ـا أن ـه مصـاب بذل ـك الفي ـروس. وللتأكـد مـن صحتكـم يجـب وضعكـم فـي الحجـر الصحـي لمـدة أربعـة عشـر يومًـا». ذهل ـت العن ـود عندمـا سـمعت بذل ـك وقام ـت عل ـى الف ـور بالاتصـال بأمهـا وأخيهـا لتخبرهـم القصـة بأكملهـا. هـا هـي العنـود تجلـسفـي غرفـة الحجـر الصحـي لمـدة أربعـة عشـر يومًـا، والبارحـة

27

كانـت تجلـسعلـى أجمـل الشـواطئ! اسـتلقت علـى السـرير وأغمضـت عينيهـا وتمنـت أن تخـرج بخيـر وسـامة لتـرى أخاهـا تميمًـا مـرة أخـرى قبـل أن يسـافر إلـى لنـدن لتحقيق حلمــه بالدراســة فــي الخــارج. لــم تتوقــع يومًــا بأنهــا ســتمر بموقــف كهــذا. فبعــد أربعـة عشـر يومًـا سـيخرج تميـم للمطـار لتحقيـق حلمـه. كـم تمنـت بـأن تكـون إلـى جانبـه هـذه الفتـرة لتسـاعده فـي توضيـب حقائبـه وتشـاركه شـعوره وفرحتـه. عندمــا انتهــت مــدة الحجــر الصحــي خرجــت مســرعة نحــو المنــزل. وعنــد وصولهــا فـرح تميـم وركـض نحوهـا والفرحـة تمـ وجهـه. ثـم قبلـت يـد أمهـا وأبيهـا. كانـت المشــاعر تغمــر قلــب أخيهــا تميــم. والعنــود تغــرق فــي دموعهــا وتحــدث نفســها: «عل ـى ب ـاب الغرفـة أقـف وأن ـت ترت ـب الحقائ ـب... أحـاول رمـي بعـض الن ـكات وأطل ـق ضحـكات عابثـة فـي الهـواء، تسـتقبلها بنصـف ابتسـامة وتتشـاغل بترتيـب أغراضـك... أذهـب للغرفـة الثانيـة أحـاول نسـيان الموقـف والوقـت... فتأتـي إلـي حامـاً أغراضـك وتفتـح حديثًـا غيـر مفهـوم. أعـرض المسـاعدة فترفـض وتعـود مـرة أخـرى... أذهـب إليـك وأعـود... وتأتـي وتعـود... ونقضـي الوقـت نهـرب مـن مواجهـة السـاعة الأخيـرة. لا نفتـح حديثًـا حقيقيّـا... ولا نكتـوي بصمـت خانـق... تتأرجـح مـع الوقـت بين هـذا وذلك، فيمـا عقـارب السـاعة تسـابق الحنيـن واللهفـة وكل محـاولات جمـع ذكريـات أخيـرة! أيا تميـم... هـذه المـرة ككل مـرة أختنـق... وأبكـي وألعـن الغربـة والبعـد وكل خيبـات الغي ـاب! أي ـا غالي ًـا كـن بخي ـر... واب ـق ب ـه حي ـث تكـون!» ظنن ـا ب ـأن وقـت تحقي ـق حل ـم تميـم قـد حـان، إلـى أن أخبرتهـم الأم بخبـر قلـب الموازيـن كلهـا. اسـتيقظت العنـود مـن سـهوها علـى صـوت أمهـا وهـي تقـول: «عزيـزي تميـم وفقـكاللهلا تذهـب لقـد انتشـر الآن خبـر وجـود شـخصين مصابيـن بالفيـروس الـذي أخبرتنا عنـه العنـود، وطلبوا مـن الجميـع عـدم السـفر إلا للحاجـة الماسـة والبقـاء فـي الحجـر الصحـي للمـدة التـي بقي ـت أخت ـك فيهـا للتأكـد مـن ع ـدم إصابتهـا بالفي ـروس». وضـع تمي ـم يدي ـه عل ـى راسـه وأغمـضعينيـه بقـوة ولـم يتفـوه بكلمـة لمـدة دقيقـة وبعدهـا قـال: «مـاذا أفع ـل؟ لق ـد تخرج ـت م ـن الجامعـة وأن ـا م ـا زل ـت أحل ـم بالذهـاب إل ـى لن ـدن للدراسـة العليـا مـاذا افعـل؟» ودموعـه تنهمـر بقـوة. قالـت العنـود: «سـأذهب وأشـتري لـك كمامــة لتضعهــا علــى فمــك، ثــم تــوكل علــىالله». رد تميــم منزعجًــا: «هــذا ليــس تـوكلً يـا أختـي بـل إنـه تـواكل. يجـب علـي أن آخـذ بالأسـباب وأبقـى بالبيـت ثـم يمكنـك أن تسـميه تـوكلً حينهـا». ابتسـمت العنـود وحـال لسـانها يقـول: «كـم أنـا محظوظة بـك!» قـام تميـم بإخـراج الهاتـف مـن حقيبتـه وهـو يغـرق فـي بحـر دموعـه. تسـقط

28

الدمـوع علـى هاتفـه فيمسـحها. تسـاءلت العنـود وقالـت: «مـاذا تفعـل يـا تميـم ومع مـن تتكلـم؟» فأجـاب قائـاً: «أخبـر أصدقائـي بإلغـاء رحلتنـا إلـى لنـدن» قالـت الأم: «آه يـا بنـي كـم يصعـب علـي رؤيتـك وأنـت تقـوم بإلغـاء رحلتـك التـي حلمـت بهـا، رضـيالله عنـك. سـيعوضكالله بشـيء أجمـل مثـل نقـاء نيتـك البيضـاء هـذه». خيـم الحـزن عل ـى المنـزل ومـن بداخل ـه. أت ـت الأم ووضعـت يدهـا عل ـى رأس تميـم قائل ـة: «ي ـا بن ـي، الأحـام لا تتحقـق دائمًـا. وأحيان ًـا يجـب علين ـا أن نضحـي بالعدي ـد مـن الأمــور الت ـي نحبهــا لنعي ـش بسـام. فخذن ـي مث ـاً ي ـا بن ـي، لق ـد ضحي ـت ب ـكل شـيء لإسـعادكم». قبـل تميـم رأس أمـه وبعـد أن ارتـاح قليـاً ذهـب ليسـاعد أبـاه فـي إرجـاع حقائبـه للمنـزل ولكـن أبـاه لـم يسـمح لـه بذلـك لأنـه يعلـم مـدى صعوبـة ذلـك عليـه، ولمـا كانـت حالـه عليـه. فـي الصبـاح، اسـتيقظت العنـود لتطمئـن علـى تميـم. طرقـت بـاب غرفتـه فسـمح لهـا بالدخ ـول وقال ـت: «كي ـف حال ـك الآن ي ـا أخ ـي؟». ف ـرد قائ ـاً: «الحمـد لل ـه، أفضـل بكثيــر. لقــد أتيــتِ فــي الوقــت المناســب، أريــد أن أخبــرك بقــراري الجديــد وأتمنــى أن تسـاعديني فـي ذلـك يـا العنـود». فقالـت: «بالطبـع، تفضـل عسـاه خيـرًا». فقـال: «لقـد قـررت أن أتـرك عادتـي السـيئة، عـادة التدخيـن. فبعـد أن سـمعت بخبـر وجـوب البقـاء فــي المنــزل أردت أن أســتغل هــذه الفرصــة بطريقــة ســليمة. وأن أنســى مشــاعري وأفكـر بعقلـي رغـم إدمانـي للتدخيـن. أريـد أن أواجـه هـذه الصعوبـة وهـذا التحـدي بجـدارة وبقـوة. وأريـدك أن تسـاعديني بالبقـاء فـي المنـزل لكيـا أشـتري علبـة سـجائر جديـدة وأريـد منـك أن ترمـي علبتـي القديمـة». بـدأت دمـوع العنـود تنـزل علـى خديهـا كأنهــا قطــرات مطــر ولــم تســتطع قــول شــيء مــن فــرط ســعادتها بســماع تلــك الكلمــات مــن تميــم. ضمتــه بقــوة وأومــأت برأســها وكأنهــا تقــول لــه بالطبــع سأســاعدك. بعــد يــوم مــن قــرار تميــم اســتغلل الحجــر المنزلــي لوقــف عادتــه الســيئة؛ عــادة التدخيـن، اسـتيقظت العنـود وهـي مـا تـزال تفكـر فيمـا قـال لهـا تميـم البارحـة. لقـد تأثـرت كثيـرًا بمـا حـدث لـه وقـررت أن تفيـد غيرهـا مـن خـال كتابـة قصـة قصيـرة عـن تميـم وعمـا حصـل لـه لتقـوم بنشـرها. وبعـد انتهائهـا مـن القصـة اسـتأذنت تميمًا أن تنشـر قصتـه. بالتأكيـد سـمح لهـا وأعجبتـه الفكـرة كثيـرًا. وأعجـب بكيفيـة اسـتغلل العنــود لموقــف كهــذا للتأثيــر علــى الآخريــن لتقليــل انتشــار الفيــروس ولاســتغلل الحجـر المنزلـي للتخلـصمـن العـادات السـيئة. وقـال لهـا: «لقـد اسـتغل بعـض النـاس

29

الحجـر المنزل ـي فـي نشـر المسلسـات مجان ًـا للن ـاس لتضيي ـع وقتهـم فيمـا لا فائ ـدة فيـه ولكنـك أنـت قمـت بالعكـس تمامًـا. كـم أنـا فخـور بـك!». فـي اليـوم التالـي، اسـتيقظت العنـود باكـرًا ومشـاعر الحمـاس تهـب عليهـا والفرحة تحتـل ملمـح وجههـا لأنـه اليـوم الذي سـتذهب فيه مـع صديقاتها المقربـات لمطعم فاخـر. فلقـد قمـن بالتخطيـط لهـذه الرحلـة منـذ شـهر. ب ـدأ هات ـف العنـود بالاهتـزاز مــن دون توقــف بســبب رســائل صديقاتهــا وتذكيرهــن لهــا بالرحلــة إلــى المطعــم وحماسـهن لرؤيتهـا بعـد بقائهـا فـي الحجـر الصحـي لمـدة طويلـة. بعـد ارتـداء العنـود عباءتهـا المفضل ـة أخب ـرت أهلهـا بالرحل ـة وبأنهـا سـتعود ف ـي وق ـت متأخ ـر. خرج ـت متحمسـة مـع أخيهـا تمي ـم ليوصلهـا للمطعـم. بعـد وصولهـا للمطعـم اندفعـت مسـرعة نحـو صديقاتهـا وهـي تضمهـن جميعًـا مـرة واحـدة. وأخبرتهـن بتجربتهـا فـي الحجــر ومــدى حماســها لتجربــة المطعــم لأنهــا جائعــة ولــم تتنــاول وجبــة الإفطــار حتـى. وفـي أثنـاء دخـول العنـود وصديقاتهـا للمطعـم توقفـت عنـد البـاب عندمـا رأت طفـاً يلعـب مـع أبيـه أمامهـا. قالـت لهـا صديقتهـا مهـا: «مـا بـك يـا العنـود لمـاذا توقف ـت؟ هـل أن ـت بخي ـر إل ـى مـاذا تنظري ـن هكـذا؟». فقال ـت صديقتهـا مـوزة: «أن ـا أعلـم، إنهـا تنظـر لذلـك الفتـى الـذي يلعـب مـع أبيـه فـي أول طاولـة فـي المطعـم، لأنــه ربمــا يذكرهــا بالحادثــة التــي حصلــت للفتــى الــذي فقــد وعيــه، أليــسكذلــك يــا العنــود؟». فأجابــت العنــود قائلــة: «نعــم، بالضبــط لذلــك... لا يمكننــي أن أذهــب للمطعــم وأن أختلــط مــع الآخريــن هكــذا ببســاطة. فمــا ذنــب طفــل صغيــر؟ كان يجـب علينـا البقـاء فـي المنـزل واتبـاع القوانيـن». لـم تقـل صديقـات العنـود أي كلمـة فلقــد اقتنعــوا بمــا قالتــه لهــم العنــود وشــعروا بتأنيــب الضميــر. أخرجــت العنــود هاتفهــا مــن حقيبتهــا وهــي تبتســم. فســألتها مهــا: «مــع مــن تتكلميــن؟ ولمــاذا تبتسـمين؟». فقال ـت العن ـود: «أتصـل بأخـي العزي ـز تمي ـم وأفعـل مـا فعل ـه تمامًـا». فقالـت مـوزة: «كـم نحـن محظوظـون لكوننـا صديقاتـك فأنـت حقّـا قـدوة لنـا. هيـا لنذهـب إلـى منازلنـا لكيـا نكـون سـببًا فـي إصابـة طفـل بـريء». ابتسـم الجميـع وسـاد الحـب والخيـر بينهـم مـرة أخـرى بعـد لقـاء قصيـر. وصـل تميـم للمطعـم وهـو لا يعلم لمـاذا اتصلـت بـه العنـود باكـرًا رغـم أنهـا أخبرتـه بانهـا سـتتصل لإحضارهـا فـي وقـت متأخـر. لكنـه فهـم كل شـيء عندمـا أخبرت ـه العنـود بمـا حصـل. مــرت الأيــام ومــر الوقــت بســرعة. وإذ بــالأم تصــرخ: «تميــم والعنــود! تعالــوا إلــى المجلــس الآن وبســرعة». شــعرت العنــود بالخــوف الشــديد وركضــت بســرعة وفــي

30

Page 1 Page 2 Page 3 Page 4 Page 5 Page 6 Page 7 Page 8 Page 9 Page 10 Page 11 Page 12 Page 13 Page 14 Page 15 Page 16 Page 17 Page 18 Page 19 Page 20 Page 21 Page 22 Page 23 Page 24 Page 25 Page 26 Page 27 Page 28 Page 29 Page 30 Page 31 Page 32 Page 33 Page 34 Page 35 Page 36 Page 37 Page 38 Page 39 Page 40 Page 41 Page 42 Page 43 Page 44 Page 45 Page 46 Page 47 Page 48 Page 49 Page 50 Page 51 Page 52 Page 53 Page 54 Page 55 Page 56 Page 57 Page 58 Page 59 Page 60 Page 61 Page 62 Page 63 Page 64 Page 65 Page 66 Page 67 Page 68 Page 69 Page 70 Page 71 Page 72 Page 73 Page 74 Page 75 Page 76 Page 77 Page 78 Page 79 Page 80 Page 81 Page 82 Page 83 Page 84 Page 85 Page 86 Page 87 Page 88 Page 89 Page 90 Page 91 Page 92 Page 93 Page 94 Page 95 Page 96 Page 97 Page 98 Page 99 Page 100 Page 101 Page 102 Page 103 Page 104 Page 105 Page 106 Page 107 Page 108 Page 109 Page 110 Page 111 Page 112 Page 113 Page 114 Page 115 Page 116 Page 117 Page 118 Page 119 Page 120 Page 121 Page 122 Page 123 Page 124 Page 125 Page 126 Page 127 Page 128 Page 129 Page 130 Page 131 Page 132 Page 133 Page 134 Page 135 Page 136 Page 137 Page 138 Page 139 Page 140 Page 141 Page 142 Page 143 Page 144 Page 145 Page 146 Page 147 Page 148 Page 149 Page 150 Page 151 Page 152 Page 153 Page 154 Page 155 Page 156 Page 157 Page 158 Page 159 Page 160 Page 161 Page 162 Page 163 Page 164 Page 165 Page 166 Page 167 Page 168 Page 169 Page 170 Page 171 Page 172 Page 173 Page 174 Page 175 Page 176 Page 177 Page 178 Page 179 Page 180 Page 181 Page 182 Page 183 Page 184 Page 185 Page 186 Page 187 Page 188 Page 189 Page 190 Page 191 Page 192 Page 193 Page 194 Page 195 Page 196 Page 197 Page 198 Page 199 Page 200

Made with FlippingBook Online newsletter